البحث عن الآخر

مدرين المكتومية

حياة كل فرد منا رُبما تبدو للآخر "طلاسم"، لا يستطيع فك رموزها، أو ترجمة معانيها، بل قد لا يتمكَّن أساسًا من التعامل معها، وهنا يجدُ الفرد ذاته داخل شرنقة العزلة، محصُورا في قوقعة من "الأنا"، والمؤسِف في ذلك أنه رُبما لا يريد لنفسه هكذا حياة، بل هو يسعَى لترجمة المقولة الخلدونية "الإنسان اجتماعي بطبعه"، وهنا يجد الإنسان نفسه في رحلته البحثية، ويتحقَّق معنى فلسفي سامٍ مفاده أنَّ متعة الرحلة الإنسانية ليست في الوصول إلى الأهداف والغايات -وهو أمر مشروع بل ومطلوب- إنما تكمُن المتعة في الرحلة نفسها ومراحلها المختلفة.

والإنسان في رحلته البحثية يبدُو للآخرين كمن يتِيه في الأرض حيرانًا، لكنه في واقع الأمر منغمسٌ في عملية البحث التي يقوم بها، والبحث هنا له أوجُه متعددة؛ فقد يكون البحث عن الشريك الذي يحقق العيش الآمن والسعادة للطرفين، أو عن الأسرة التي تمنح جميع أفرادها الدفء العائلي والأمان الاجتماعي المنشود، أو رُبما يكون البحث عن وظيفة أو نجاح أو قطعة أرض، أو حتى عن راحة البال. هنا، يكتشفُ المرء منا أنَّ الحياة في رحلتها شاقة لكنها ممتعة، طريقها قد يكون واضحا لكنه مليء بالمنحدرات والهضاب المرتفعة؛ لذا نقول دائما إنَّ الحياة حلمٌ نحققه عندما نصل إلى ما نريد، والإنسان في هذه الحالة يكون دائم البحث عن آلية تحقيق هذا الحلم، مهما واجه من صعوبات ومهما عانى من تحديات.

الحياة هي مسيرة مُمتدة من البحث عن إنسان آخر بتناقضات مختلفة، أو عن مكان آخر غير الذي يقطنه، أو عن مشروع لم يرَ النور بعد، أو عن حلم جميل يخشى ألا يتحقق على أرض الواقع.. الحياة بحثٌ عن فرصة ربما لن تتكرَّر إذا ما عثر عليها في رحلته. فكل شخص في حياته يطارد المجهول، لكنَّه في قرارة ذاته يجد أنَّ ذلك البحث أمرٌ مجدٍ، وأنه في النهاية سيحقق ما يصبو إليه ويتطلع له، وأنه حتمًا سيعثر على ما فقده في رحلته الطويلة، وربما يكون بحثه قد اجتمع في شخص لا يعرف كم من الوقت سيحتاج للوصول إليه أو العثور عليه، لكنه لا يتوقف ولن يتوقف!

هذا الآخر الذي نبحثُ عنه في مسيرتنا، قد يكُون مكانا يسكن الذاكرة، فنعيد شريط الذكريات لاستعادته، وكأنها اللحظة الأولى التي نقف عندها في تلك الزاوية من ذاك المكان، وربما ذلك حيلة دفاعية نفسية كي نعود إلى الماضي بلحظاته الجميلة؛ فالمكان مُؤكَّد أنه لم يتغير، بل المشاعر والشخوص هي التي تغيرت وتبدلت أحوالها. وعندما نغُوص في بحر الذكريات تتقافز أمامنا مشاهد كُنا نظن أننا نسيناها، ومشاعر كنا نعتقد أنها ماتت، فنكتشف أنها لا تزال حية تحت الرماد، مليئة بالطاقة خلف الحُجُب، ورغم أنها كلها رحلت ولم يبقَ منها سوى ذلك المكان المهجور في الذاكرة، لكننا نتقبله ونرضى به، فلا يمكن أن يكون البحث قد ضاع هباءً منثورا.

فمثلًا موجات الحب الأولى التي تصدمنا وتسري في عروقنا، تمنحنا شعورا عميقا بالدفء والبهجة، شعور ربما نظل نبحث عنه بعد ذلك ولا نجده، قد يكون متاحا لكنه ليس بنفس درجة الشعور الأول، وهنا يجد الإنسان نفسه في انتظار دائم لعودة ذلك الشعور الأول، مُترقِّبا حياته ومشاعره، مسافرا في عوالم خفية ومعلنة بحثا عن المجهول الذي يريده، أو الذكرى التي تعيد إليه تلك البهجة.

وفي المقابل، هناك أناس لا يبحثون عن شيء سوى عن أنفسهم، عن صوت بداخلهم ينادي عليهم دائما لسفر خارج حدود المكان والزمان، يبحثون عن أنفسهم التي أضاعوها في معترك الحياة؛ فتجد ذلك الصوت يدلهم -دون شعور- نحو البحث عن مكان جديد يجدون فيه وطنا بحجم أحلامهم وأمنياتهم التي وضعوها يوما على خارطة طريق الحياة، والوطن هنا ليس بمعناه الحقيقي أي الدولة، بل المساحة الخاصة به كإنسان لكي يحيا حياة طيبة هانئة وهادئة، وطن بحجم غرفة صغيرة في بناية شاهقة يقف في شرفتها محملا بالأمل، ومستبشرا بصباحات جميلة. هذا الوطن قد يكون مكتبا صغيرا في مقر عمله، لا يضم سوى البداية الأولى التي نسج فيها أولى خيوط رحلته الحياتية.

البحث سيظل هاجسا في حياة كل شخص منا، وسيرى أن ثمة شيئًا مفقودًا أو لم يحصل عليه بعد في حياته، أو حتى لم يجد الطريق إليه.. البحث عملية متناغمة كمقطوعة موسيقية يعزفها المرء طيلة حياته، مستهدفا الوصول إلى لحظة الختام التي يسمع فيها تصفيق الجمهور، فعندما يصل يكتشف أن المتعة لم تكن فيما وصل إليه، بل فيما قطعه من رحلة وما عزفه من أداء.