الغَيب

 

◄ الهروب من الأحلام كان أسهل عن الهروب من الإشارات التي هي أكثر إزعاجا

 

أنيسة الهوتية

كُنت أفكر أن أستفتح أول مقالاتي في العام الجديد بصورة شخصية جديدة، وأتممتُ جلسة تصوير بأكثر من عشرين صورة، إلا أنَّني لم أقتنع ولا بواحدة! لأنَّ "اللحاف" الذي كنت أتحجَّب به كان ناعمَ اللون. فأتممت غيرها بـ"لحاف" أخضر "جيشي"، ولكني لم أقتنع للمرة الثانية؛ لأن الزاوية المطلوبة -التي أجدني أنا الإيجابية فيها- لم تكتمل، خاصة مع عيني الحزينتين دائما! والتي وإن كنت مبتهجة، يسألني من يراني: "لماذا أنتي حزينة؟!".

ومع فكرة تغيير الصورة، كانت تراودني فكرة تغيير المنهج المقالي، بأني سأبدأ بمقالات فكاهية، ولربما أتشبه بقصيدة نزارية، أو خاطرة عاطفية، أو تجربة للعاموديات والرباعيات، ولربما قصة قصيرة على لسان الحيوان! أو صفحات من ذكريات الطفولة الجميلة! أيا كان، ولكن لن أبدأ بالآلام والأحزان.

رغم أنَّ الحزن كان يعيش في زوايا قلبي مع مرض حبيبنا وفقيدنا، فقيد الأمة والعالم كله -طيب الله ثراه- إلا أنَّ التفاؤل كان إيماني الدائم، فقد كنت أُجمِل أفكاري وكل ما حولي حتى يطير التشاؤم ليس فقط من فكري وقلبي بل من حياتي ككل، وأبدأ ببث الإيجابية لنفسي ولكل من حولي.

فبدأتُ العام الجديد مع "حُماة الوطن" ونويت أن القادم سيكون مسليا وممتعا لمحبي قراءة مقالاتي، إلا أن ما حصل كان صادماً وكرهت مشاعري التي كانت تتمسك بالخوف والقلق عُنوة، رغم محاولاتي في تبديل ذلك الشعور الكئيب السلبي، إلا أنَّ الأقدارَ المخيرة لا تتبدل بمشاعرنا مهما عملنا.

وأتذكرُ أني كنت أتهرب من الرسائل والصوتيات التي كانت تأتيني من بعض أقاربي ومعارفي طلبا لتفسير الأحلام أو الكوابيس الغريبة التي كانوا يرونها، وبما أن تفسير الرؤيا أمانة، وأيضا وصف الرؤيا أمانة لا يجوز فيها الكذب والحذف أو الإضافة والبهتان، فقد كنت أحاول رفع معنوياتهم بقول: إنه خير قادم تفاءلوا به وستجدوه، وأكثروا من الاستغفار فإنه أمان أهل الأرض.

ومع امتناعي النفسي وتهربي من تفسيرها، بدأت هي تطاردني كل ليلة تترا، لدرجة أني حاولت ألا أنام، ولكن النوم سلطان! وذلك السلطان الذي كنت أستسلم له لساعتين أو ثلاث كان يفجعني كل ليلة أكثر من الساعات التي قضيتها في حاويته.

والهروب من الأحلام كان أسهل عن الهروب من الإشارات التي هي أكثر إزعاجا، وفي كل يوم كانت هناك أمور -لا أؤمن بها- إلا أنها كانت تعيد إلى ذاكرتي بعضاً من أقاويل الحضارات السابقة التي درستها، وأهل العلم الذين عايشتهم -رحمهم الله- وكأنني أقرأ صفحات من كتب قديمة أدمنت قراءتها ونبذتها لاحقا، مثل "سحر الأرقام والحروف"، "إشارات السماء"، "مزامير داوود"، "معبد سُليمان" "فيزياء وكيمياء الكون"، "الأجرام السماوية والأنفس" و"رموز الإنسان"... وغيرها، حتى الإشارات المذكورة في خرافات أنصاف الآلهة! وكان مسرح الذاكرة يتنقل بين "هيرقل" و"أخيل" و"أبناء زيوس"!

إلا أنني كنت أصب عليهم صبًّا من آيات الله القدير، وأرتجي نور السماوات والأرض أن ينير بصري وبصيرتي، ويبعد عن ذاكرتي كل "علم لا ينفع" أخذته يوما، ويبدلني به خيرا يعينني في ديني ودنياي وآخرتي.

وأخيرا.. مهما سعى فضول الإنسان لمعرفة المستقبل، فلن يعلم سوى ما علَّمه الله إياه، والغَيب لا يعلمه سوى خالقه، ومهما سعينا لتغيير أقدارنا، سنرجع إلى ما اختاره لنا خالقنا جل وعلا، العزيز المتعال سبحانه.