أسرة عظيمة وحُكم رشيد

 

 

< شكرا لهذه الأسرة العظيمة.. وشكرا لحكمهم الرشيد الذي توافق على رجل وضع فيه سلطاننا الراحل ثقته السامية

 

علي بن سالم كفيتان

لم أنم تلك الليلة، فقد تدفقت رسائل عبر مجموعات الواتساب ومواقع التوصل الاجتماعي تُنبئ بارتفاع حالة الطوارئ في السلطنة إلى ذروتها، والعاقل يعلم أنه لا يمكن ارتفاع الهاجس العماني إلا لأمر جلل؛ فجثمت إلى جانب هاتفي أستعد لما هو أسوأ، وبعد الرابعة فجرا انتشر الخبر الأليم الذي توقَّعته على ضوء المعطيات الصحية لجلالة السلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله- في الفترة الأخيرة.

ذهبتُ إلى التلفاز لمراقبة الحدث، ولا أظن أن المذيع الذي ظهر رابط الجأش في ذلك الفجر الحزين تلى الخبر للمرة الأولى، فوَقْع خبر كهذا سيكون عظيما على من يتلوه، مخبرا الناس بأن السلطان قد غادر الدنيا، ولا مجال للأمل مجددا؛ فتوقعت أن الخبر سُجِّل عدة مرات حتى تم التوصل للنسخة الأخيرة التي ظهر فيها أحمد بن حافظ العامري كجلمُود صخر حطه السيل من علٍ، بعدها تسمَّرت خلف الشاشة وحيدا، فلم أشأ أن أفجع أسرتي بهذا الخبر الأليم، فمنحت نفسي خُلوة حزن عميقة تجاوبت معها كل جوارحي، ولم أجد حرجا، فبكيت حتى ارتوت نفسي، منتظرا النظرة الأخيرة على رجل طالما انتظرناه، واقفا كالطَّود العظيم، لكنَّ المشهد بدأ مختلفا نهار السبت.

صَدَر البيان الأول من مجلس الدفاع، والذي دعا الأسرة الحاكمة الكريمة للاجتماع، واختيار خليفة لتولي الحكم في البلاد، وكانتْ المحطات الفضائية تحاول شم الخبر بكل الحواس الممكنة وغير الممكنة؛ فما يهمهم هو الخبر الحصري لمن سيخلف جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -رحمه الله- وكانت التوقعات على أشدها، بينما انغمست محطات أخرى في الفتنة وأنا ارقب الحدث من على بعد 1000كم من مسقط، فكُنت أسأل الكثير من الأسئلة التي لم أجد لها أجوبة، ونفسي يقودها الخوف من الفراغ القاتل في تلك اللحظات الحاسمة من تاريخ وطني.

وبينما كان الجسد الطاهر في طريقه للجامع الأكبر، كان هناك حدث آخر يجري بمنتهى السرية والحسم في مجلس عُمان؛ فشاهدنا فيما بعد بثًّا مسجلًا لاجتماع الأسرة المالكة الكريمة مع مجلس الدفاع ورئيسي مجلس الدولة والشورى ورئيس المحكمة العليا وأقدم نائبيه، وقد بدت على الوجوه الكريمة والعمائم السعيدية علامات الحزن والأسى العميقين على الفقد الكبير، ونطق عميد الأسرة المالكة رجل الوفاء وصديق الدرب الطويل مع جلالة السلطان، كلمات خرجت من عمق مصاب بالألم، وبين كلمات صادقة تغلفها نبرة الفقد، وبما لا يترك مجالا للشك أن الحزن على السلطان أعظم من أي أمر آخر؛ لهذا قررت الأسرة المالكة الكريمة أن لا تلجأ للمهلة الدستورية للبحث عن خليفة للسلطان إكراما له وحفظا لعمان، وقالوا من أوصى به جلالته -رحمه الله- هو سلطان البلاد القادم، فشكرا لهذه الأسرة العظيمة التي لم تُربكنا، ولم تجعل من بلدنا مادة إخبارية دسمة لأبواق الفتنة، وشكرا لحكمهم الرشيد الذي توافق على رجل وضع فيه الراحل ثقته.

فاختار جلالة السلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله- الرجل الذي كلفه بوضع "رؤية عُمان 2040" والإشراف عليها، وهنا نستشرف معانِي هذا التكليف السامي قبل اعوام، ونرى فيه حنكة سياسية طالما تمتع بها السلطان الراحل؛ فقد اختار السلطان -رحمه الله- الرجل الصامت قليل الظهور والتصريحات، كثير التأثير عبر القوى الناعمة كما يقولون؛ فعند استرجاع الصور والفيديوهات التي كانت تجمعه من الراحل -رحمه الله- كان جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم حاضرا في أصعب الملفات السياسية والاقتصادية، وكان فاعلا فيها.

لفت انتباه المراقبين السياسيين الثقة العالية التي تمتع به السلطان الجديد من خلال جميع المشاهد التي حدثت في ذلك النهار؛ فحمده لله وتوكله عليه عند النطق باسمه كوريث لعرش السلطنة سمعها الجميع ممن تابعوا الحدث، وتبين أن الرجل لم يسعَ لها، بل كُلف بها، كما بينت لغته الواضحة ووقفته المنتصبة أثناء القسم أمام مجلس عُمان هيبة سلطان، وكان خطابه الأول مُتزنا، فبعث بإشارات اطمئنان جلية وواضحة لمواطني شعبه ولشعوب العالم، كما كانت مراسم مبايعة الأسرة المالكة الكريمة صادقة ونقية، ولم تشُبها شائبة، فخابت أعين الخبثاء والمتربصين، فتعانقت هامات الرجال العظماء، وقدمت ولاءها ودعمها لجلالته -حفظه الله- وخرج من حُمِّل الأمانة، وصعد يعلوه الحزن على رجل المحبة والسلام إلى منصة الشرف، فوقف شامخا كجبال عُمان التي خلفه ليوحي لنا بأنَّ الأسرة السعيدية باقية على ولائها ومحبتها لكل العُمانيين، وبعدها تقدم المصلين على الروح الطاهرة وحمل نعش ابن عمه إلى مثواه الأخير على كتفيه، وجلس على قبره صابراً مُحتسباً.

رحم الله جلالة السلطان قابوس بن سعيد، وحفظ جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم.