حاتم الطائي
◄ السلطان قابوس صاحب مهمة رسالية كرّس 50 عامًا من أجل النهوض بالوطن والمواطنين
◄ رسائل عدة في الخطاب السامي الأول للداخل والخارج ترسم ملامح العهد الجديد
◄ التنمية والاقتصاد والاستثمار.. 3 استحقاقات مرتقبة على رأس أولويات جلالة السلطان
"شاءت إرادة الله سبحانه أن نفقد أعزَّ الرجال وأنقاهم".. بهذه العبارة البالغة الدلالة، العميقة المعنى، المُفعمة بالوفاء، والمُثقلة بالحزن العميق والألم الصادق؛ استهل حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم- حفظه الله ورعاه- خطابه السامي الأول إلى الشعب العماني والعالم أجمع، عقب توليه مقاليد الحكم في وطننا الحبيب؛ خلفا لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور، طيّب الله ثراه وجعل مثواه جنة الخلد مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا..
خطابٌ تاريخيٌ ينعي وفاة السلطان الراحل، مؤسس الدولة العمانية المعاصرة، وباني نهضتها المباركة الحديثة، هو أبٌ لكل العمانيين وقائدهم وزعيمهم خالد الذكر، الذي لن تنساه الذاكرة الوطنية أو العربية بل والعالمية، ولن تستوعبه أدبيات التأريخ أو مفردات الرصد الأمين للأحداث، إنّه السلطان الحكيم صاحب الرؤية الثاقبة التي نهل من مساراتها زعماء العالم وسياسيوه من مشارق الأرض ومغاربها.. إنّه السلطان المؤمن بالأهداف السامية لديننا الحنيف، ومقاصده العظمى، فأشاع السلام ونشر المحبة، وحض على التسامح والوئام، وبنى صرحا شامخا قوامه التآلف والتعايش.. هو القائد الفذ الذي لا يُشق له غبار، فكان في السلم والحرب رسولَ سلامٍ رفع شعار "عفا الله عما سلف" فيما مضى، وشعار "لا عداء مع أحد" فيما كان قائمًا.. هو السلطان صاحب المهمة الرسالية، استجاب لدعوة القدر، وجاء إلى سدة الحكم لبناء عُمان ونهضة أمتنا، أفنى عمره وحياته لأجل أن تتمتع بلادنا الغالية بنعم الأمن والأمان والاستقرار والرخاء، كرّس 50 عاما من حياته لكل عماني وعمانية، أنكر ذاته، ورفع هامة الوطن عالية خفاقة، بات اسم عُمان مقترنا بالحكمة القابوسية، ومتصفًا بالأخلاق العمانية الرفيعة التي رسّخ جلالة السلطان قابوس حضورها لدى كل فرد من أبناء وطننا، وصار كل عماني وعمانية قابوسي الأخلاق والأفعال..
مفردات اللغة لن تمنح هذا القائد العظيم ما يستحقه من عبارات الثناء والرثاء، والتعابير البلاغية مهما اجتهدنا فيها لن توفيه حقه المستحق، لكننا نجد عزاءنا وسلوانا فيمن اختاره جلالة السلطان الراحل- رحمه الله- ليكون خير خلف لخير سلف، حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم- حفظه الله ورعاه-؛ القوي الأمين الذي تقلد مناصب عدة في مؤسسات الدولة، داخليا وخارجيا، فكريا وسياسيا واقتصاديا..
وعندما نتمعن في نص الخطاب الأول لجلالة السلطان المفدى- أيّده الله- نستطيع أن نقرأ العديد من الرسائل المباشرة وغير المباشرة، في سطور هذا الخطاب وبين ثناياه، رسائل يعيها جيدا القاصي قبل الداني، هدفت بصورة رئيسية إلى التأكيد على أنّ جلالته يسير على النهج القويم الذي أرساه جلالة السلطان الراحل، في شتى شؤون الحكم وإدارة الدولة، في الداخل والخارج. والبداية كانت بالتأكيد على مناقب المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس- طيب الله ثراه- وأنّ دولة المؤسسات والقانون التي أرسى دعائمها على مدى 5 عقود من النهضة المباركة، في مختلف مجالات وقطاعات العمل، وما تحقق من تنمية مستدامة ونمو اقتصادي وارتفاع بمستوى معيشة المواطن، وغيرها من المنجزات التي تحققت.
الشاهد أنّ جلالة السلطان المعظم- حفظه الله ورعاه- يبرهن في هذا السياق على التزامه الكامل بالسير على ذلك النهج القابوسي القويم، واقتفاء أثر الخطى النيرة للسلطان الراحل، لكي تمضي السفينة العمانية قدما إلى الأمام، من خلال موجهين اثنين؛ أولهما الحفاظ على ما تمّ إنجازه من مكتسبات وطنية شيدها العمانيون بسواعدهم الفتية، وبتوجيه وتخطيط من قبل السلطان الراحل. أمّا الموجه الثاني فيتمثل في البناء على تلكم المنجزات، مع عزم أكيد على ذلك، من أجل أن تتحقق لعمان المكانة المرموقة التي أراد لها جلالة السلطان المغفور له بإذن الله تعالى، وأفنى عمره لأجلها. وهذه الرسالة تترجم الرغبة السامية لجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم- حفظه الله ورعاه- في طمأنة المواطنين، وتأكيد إدراك جلالته لتطلعاتهم في ذلك الظرف التاريخي.
وعرج الخطاب بعد ذلك على الملفات الإقليمية والدولية، فكان التشديد على مواصلة ارتسام خطى السلطان الراحل وما أرساه من ثوابت وطنية في الشأن الخارجي، والتي تقوم في الأساس منها على أسس التعايش السلمي بين الأمم والشعوب وحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير مع احترام سيادة الدول. وتلك ركائز استراتيجية لسياسة خارجية متزنة ورصينة، جوهرها الحياد الإيجابي والتوازن والسلام، وتعزيز التآلف بين الأمم والشعوب، وفق نهج رشيد يستلهم المثل الدينية العليا والأخلاق العالمية الحميدة.
وتمثل التأكيد الأبرز على مواصلة العهد والمضي قدما في ذلك السبيل، مع بذل كل الجهود الضامنة لتحقيق السلام وإرسائه، وحل الخلافات بالطرق السلمية، من خلال الحلول المرضية المستندة إلى الوفاق والتفاهم بين مختلف الأطراف، وينطبق ذلك كله على الساحة الخليجية والعربية والدولية.
ويمكن القول إنّ المقام السامي لجلالة السلطان المعظم- نصره الله- وفي مستهل عهده الزاهر الميمون، مُقبل على جملة من الاستحقاقات الداخلية والخارجية، ولا شك أنّ الملف الاقتصادي سيكون هو الشغل الشاغل، والأولوية القصوى، خاصة وأن جلالته- حفظه الله- عُهد إليه من قبل السلطان الراحل- رحمه الله- بقيادة الرؤية المستقبلية "عمان 2040"، وهو استشراف وثقة سامية سبقت تنصيب جلالته بسبع سنوات، ما يعني أنّ جلالة السلطان- أيّده الله- على دراية بأدق التفاصيل والتحديات التي تواجه اقتصادنا، بل ويعلم- حفظه الله- بالآليات الكفيلة بقيادة التحول الاقتصادي لعماننا الغالية. وهذا التحول يقوم على قاعدة التنويع الاقتصادي، وزيادة نمو القطاعات غير النفطية، وسيتحقق ذلك من خلال إتاحة المجال أمام القطاعات الواعدة التي حددتها الرؤية المستقبلية، وتقوية السياسات المالية والاقتصادية بما يضمن إحراز النمو الاقتصادي المأمول، ودفع محركات التنمية عبر سياسات تحفيزية تتضمن أولا تمكين القطاع الخاص من المشاركة في صناعة هذه التنمية، في ظل قانون الشراكة والتخصيص الذي يعد أحد أهم القوانين التي صدرت خلال السنوات الأخيرة، ويفتح المجال أمام جهود تنويع الاقتصاد. ومن ثم يتعين التوسع في مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، بما من شأنه أن يدعم المساعي الرامية لتأسيس قطاع خاص وطني يتحلى برؤية اقتصادية تعتمد نهج التنوع وترتكز على أساسيات الرؤية المستقبلية "عمان 2040".
ويجب أن تساعد السياسات التحفيزية المزيد من التيسير النقدي وطرح قروض منخفضة الفائدة أمام الاستثمارات، بما يعود بالنفع على مسارات التنمية، وبما يتماهى مع التوجه الاقتصادي العام.
استحقاق آخر ينتظر جلالة السلطان المعظم- أيّده الله- يتمثل في قضية الباحثين عن عمل وسياسات التعمين، وهما قضيتان وثيقتا الصلة ببعضهما البعض، ولقد نجحت الحكومة الرشيدة وبتوجيهات من جلالة السلطان قابوس- رحمه الله- في أن توفر الآلاف من فرص العمل لشبابنا، وأن تدعم سياسات التعمين في مختلف القطاعات، على الرغم مما ترافق من تحديات مع هذه السياسات. لكن الآمال معقودة على الرؤية الثاقبة لجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم- حفظه الله ورعاه- لكي يتم صياغة سياسات تشغيل متطورة تواكب المتغيرات، وتتفاعل مع التحديات التي تجلت وبرزت خلال المراحل السابقة، وتتماهى مع احتياجات القطاع الخاص ورؤيته.
وارتباطا بقضية التنمية وتوفير الوظائف، يأتي الاستحقاق الثالث والمتمثل في جذب المزيد من الاستثمارات الوطنية والأجنبية، خصوصا مع سريان قانوني الشركات التجارية والاستثمار الأجنبي، واللذين يوفران البيئة الملائمة والمناخ المناسب لعملية الاستثمار في جميع القطاعات، وعلى رأسها القطاعات غير النفطية. ومن هنا تتعاظم التطلعات التي تنشد المزيد من التسهيلات وتعزيز بيئة الأعمال والاستثمار وخلق المناخ الجاذب لرؤوس الأموال، وزيادة تنافسية السلطنة في مختلف مؤشرات التنمية.
وثمة استحقاق آخر تنعقد الآمال على سرعة الوصول إليه، وهو دعم نمو قطاعات رئيسية مثل السياحة والتجارة والتصدير واللوجستيات، من خلال الاستفادة من مميزات الاستثمار في المناطق الحرة والصناعية والخاصة، فالمنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم والمناطق الحرة في صحار وصلالة وغيرها، تفتح المجال أمام مشروعات اقتصادية كبرى، قادرة على توفير الآلاف من فرص العمل، وتحقيق النمو المطلوب في تلك القطاعات، وبما يساعد على زيادة إيرادات الدولة بهدف تقليص العجز المالي وسرعة سداد الدين العام وتخفيض مستواه الحالي.
وهنا لا بد أن نشير إلى ضرورة الإسراع في إصدار قانون للدين العام، يعمل على وضع الأسس والمعايير العامة التي تحقق الاستدامة المالية، وتقليص اعتماد الحكومة على الاستدانة من الداخل عبر بنوك السلطنة، بما يكفل الحفاظ على السيولة المحلية وتوجيهها نحو مسارات التنمية الاقتصادية المباشرة والاستثمارات، بدلا من أن تقترض الحكومة مبالغ كبيرة لتلبية الإنفاق الجاري وليس الاستثماري.
وختاما.. إن التكاتف والوقوف صفًا واحدًا، من شأنه أن يدعم لحمتنا الوطنية خلف قيادتنا الحكيمة، ويضمن لنا جميعا مستقبلا زاهرا مليئا بالفرص والنجاحات، في استمرار ومواصلة للنهج القابوسي القويم، الذي يكفل تحقيق التنمية الشاملة واستدامتها، وإرساء الرخاء والاستقرار، وتعزيز التعايش والوئام..
والله نسأل- جلّ في علاه- أن يوفق جلالة السلطان المفدى- حفظه الله- لخير هذا الوطن الغالي وازدهاره، ورفعة مواطنيه، ونمائه، إنّه ولي ذلك والقادر عليه.