قادة الخليج.. تنصيب بلا تتويج ورحيل بلا ضجيج

عبدالنبي الشعلة

 

رحم الله جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور الذي كان قد استجاب بكل هدوء وثبات وروية لتحديات مطلع السبعينات من القرن الماضي، فأمسك بزمام السلطة والمسؤولية في سلطنة عمان الشقيقة ليقودها بهدوء وثبات وروية أيضًا نحو معارج ومسارات الانفتاح والتنمية والتقدم والبناء، وكان رحمه الله قد تولى مسؤوليات الحكم في العام 1970م ضمن نظام سلطاني من دون بهرجة لتتويج، ومن دون إقامة أي احتفال أو مراسم تنصيب، كما يفعل الملوك والسلاطين عند تقلدهم سلطاتهم الدستورية، ولم يرث السلطان قابوس أو يصنع لنفسه كرسي عرش ليتربع فوقه، أو يضع على رأسه تاجًا أو يحمل بيديه صولجانًا كما كان يفعل الملوك والسلاطين أيضًا.

وعندما استجاب لنداء خالقه، وقبل أن يسلم الروح إلى بارئها أوصى بأن تكون جنازته بسيطة مُصغرة، وألا يؤخر دفنه، ودون الحاجة إلى دعوة أو استقبال ملوك ورؤساء الدول لحضور مراسم الصلاة والدفن، كما أوصى بعدم تزيين قبره أو البناء عليه؛ وكان له ما أراد.

وتبنت الأسرة المالكة الكريمة بالإجماع توصية السلطان الراحل بتقليد السلطة إلى ابن عمه جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور، الذي أدى قسم اليمين وتسلم مقاليد الحكم، وأصبح سلطان عُمان في اليوم نفسه، ومن دون حفلات تتويج أو مراسم تنصيب، دعاؤنا له بالتوفيق والسداد ليكون خير خلف لخير سلف.

كان السلطان قابوس رحمه الله أنموذجا بارزًا وأحدث مثال لكل ملوك وأمراء دول مجلس التعاون الخليجي دون استثناء، الذين تقلدوا السلطة وتسلموا مقاليد الحكم في دولهم، بكل سلاسة ورزانة ووقار، وبعد أداء القسم الدستوري، ومن دون مراسم أو احتفالات للتنصيب أو التتويج، وما يتطلبه ذلك من هيل وهيلمان واستعراضات ومهرجانات وقرع للطبول والأجراس ونفخ في المزامير والأبواق؛ كما يحدث عادة عند تنصيب الملوك والأباطرة والسلاطين.

وخلال فترة حكمهم فإنَّ ملوك وأمراء دول مجلس التعاون الخليجي، دون استثناء أيضًا، لا يتربعون على عروش ولا يضعون تيجانًا على رؤوسهم ولا يحملون صولجانات بأيديهم.

 وعندما يجيء أجل أي واحد منهم ويفارق الحياة يتم لف جسده بقطعة قماش بيضاء عادية، كما يلف جسد أي وزير أو خفير أو فقير، ويوارى التراب في حفرة لا تختلف في عرضها أو طولها أو عمقها عن مواطنيهم؛ في مقابر عامة يدفن فيها المواطنون العاديون أيضًا، من دون تشييد أي بناء فوق قبورهم أو حتى عمل أي تمييز لها.

فنحن في الخليج لا نعرف المدافن أو المقابر أو الأضرحة الملكية الخاصة وما تحتويه من غرف وحجرات وأروقة وقباب، وملوكنا لا يعرفون ولا يريدون المواكب الملكية الجنائزية والتوابيت المزخرفة بالأوسمة والنياشين، والمغطاة بأكاليل الورود، والمحمولة على عربات تجرها الخيول وتتقدمها الرايات والأعلام وتحف بها العساكر والجنود، وتحيط بها الجوقات والفرق الموسيقية، وتتبعها صفوف منظمة من كبار المدعوين والمعزين.

ورحم الله أمير الكرم والبساطة والتواضع؛ أمير دولة البحرين الراحل المغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه، الذي تعرض لأزمة قلبية أودت بحياته وهو يُؤدي واجبه في مكتبه بدار الحكومة بالمنامة.

حدث ذلك قبل ظهيرة يوم السادس من شهر مارس 1999م، فنقل جثمانه الطاهر على الفور إلى المستشفى، حيث أعلن رسميًا عن وفاته، وقبل أن تنتقل روحه إلى جوار ربها كان قد أوصى بأن يدفن في اليوم نفسه دون أدنى تأخير، ودون الحاجة إلى إقامة أي مراسم أو طقوس إلا في حدود ما أمر به الله ورسوله، وهذا ما حصل بالفعل. ففي اليوم نفسه وعند ميقات صلاة العصر وصل جثمانه الطاهر مسجى في نعش إلى مقبرة الرفاع، وبعد تغسيله والصلاة عليه حُمل إلى مثواه الأخير على أكتاف أفراد أسرته ومواطنيه تحف به قلوب وأفئدة شعبه الذي يكن له كل المحبة والتقدير والولاء، ودفن قبل أن تغرب شمس ذلك اليوم الحزين، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

في اليوم نفسه تولى جلالة الملك المفدى حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله ورعاه سلطاته ومسؤولياته أميرًا للدولة، بعد أن أدى القسم الدستورية في حفل محدود، أو بالأحرى في اجتماع مهيب تحيط به البساطة والحشمة والوقار، وضم كبار أفراد الأسرة المالكة والوزراء ووجهاء الدولة وأركانها، وبعدها بأيام قليلة وفي اجتماع أو جمع مُماثل أدى صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة حفظه الله ورعاه اليمين الدستورية وليًا للعهد، في عملية تمت في غضون أيام معدودة، وتم خلالها بسلاسة ويُسر تداول السلطة في أطرها القانونية الشرعية الدستورية.

وفي هذه الوقفة، وبغرض المقارنة، فلنتذكر ولا ننسَ جارنا المرحوم شاه إيران محمد رضا بهلوي؛ الذي أسبغ على نفسه لقب "ملك ملوك الآريين" والذي تمادى في إظهار الجانب المادي من أوجه العظمة والسلطة والوجاهة والفخامة الملكية، فصار في المناسبات والاحتفالات يلبس هو وزوجته الأثواب والمعاطف الحريرية المطرزة بالخيوط الذهبية والفضية والمزخرفة بالأحجار الكريمة، ويتربع بجانب زوجته أيضًا على "عرش الطاؤوس" المشهور المصنوع من الذهب والفضة، والمرصع بـ 27 ألف جوهرة.

وإلى جانب التاج المميز الثمين الذي كانت تلبسه زوجته في المناسبات فقد كان الشاه يضع على رأسه تاج "أكبر إمبراطوريات الشرق"،  تزينه 3755 جوهرة من الألماس والأحجار الكريمة، وفي المناسبات كذلك كان الشاه وزوجته يحرصان على أن يحملا بأيديهما الصولجانات المرصعة أيضًا باللآلئ والمجوهرات؛ والكل يعرف بقية القصة الحزينة لشاه إيران.

وتحضرني في هذه الوقفة أيضًا قصة وردت في كتاب "الملك فاروق الأول.. آخر ملوك مصر" مُتعلقة بحفل تتويجه ملكًا على مصر، بعد أن بلغ سن الثامنة عشرة، وهي السن القانونية أو سن الرشد التي تؤهله لتولي سدة الحكم، فقد نشب خلاف بين القصر وحزب الوفد الحاكم، عندما أراد القصر أن يؤدي الملك اليمين الدستورية أمام البرلمان، على أن تقام قبل ذلك حفلة دينية يتوج فيها الملك ويُدعى لها الأمراء وكبار الرسميين وممثلي الهيئات السياسية وكبار العلماء والشيوخ والقضاة، ويقف شيخ الأزهر بين يدي الملك ويدعو له ويتلو صيغة معينة يجيب الملك على كل سؤال فيها ويقسم يمينًا خاصًا بالولاء لشعبه واحترام القانون والعمل على رفاهية الأمة وإسعادها، ثم يقلده شيخ الأزهر "سيف محمد علي"، في مُمارسة أشبه ما تكون بما كان يفعله سلاطين الدولة العثمانية، كما كان هناك اقتراح بأن يضع رئيس مجلس الشيوخ باسم الأمة تاجًا على رأس فاروق، في احتفال يحضره ملوك ورؤساء العالم.

إلا أنَّ النحاس باشا رئيس الوزراء وحكومته اعترضوا على كل هذه الاقتراحات، على أساس أن لبس التاج يظهر تعالي وجبروت الملك على شعبه، في ظل ظروف اقتصادية صعبة، كما رفض النحاس اقتراح إقامة الحفلة الدينية، مُصرًا على أنَّ الاحتفال يجب أن يكون طابعه وطنيًا يتبارى ويتساوى فيه سائر المصريين مسلمين وغير مسلمين، مستبعدًا الحماية الدينية للملك التي يجب أن يستمدها من البرلمان فقط، فتمَّ الاكتفاء بحفل التتويج أمام البرلمان، حيث جلس فاروق على كرسي العرش وأمسك بيده اليسرى الصولجان، بينما وضع يده اليمنى على القرآن الكريم وأدى اليمين الدستورية، وفي العام 1952 اضطر الملك فاروق إلى التنازل عن عرشه ومُغادرة بلاده إلى غير رجعة، إلا بعد وفاته في المنفى بسنين عندما جُلبت رفاته لتودع في المقبرة الملكية بالقاهرة.

لمثل هذه الحالات والمواقف؛ فإنَّ الخليجيين يحبون ويحترمون ويجلون ملوكهم وأمراءهم ويتمسكون بهم. رحم الله المُتوفَّين منهم، وأطال عمر الباقين ووفقهم لخدمة أوطانهم وشعوبهم وسدد على دروب الخير خطاهم.

الأكثر قراءة