وطن هو قابوس

 

د. بدر الشيدي 

كان الصبح موعدنا، لكنه ليس كالصباحات التي مرَّت على عُمان. لعله الصباح الذي لن ينساه العمانيون والعالم أجمع، في يوم ماطر تداعت له السماء فسكبت دمعها غزيرا، رحل أعزَّ الرجال.

السلطان قابوس الذي رحل عن عالمنا، كما هو في حياته دوماً شامخاً شموخ جبال عُمان وسمائها. في رحليه كان لابد أن يعلم العالم بأسره كيف هم العظماء عندما يرحلون .. كيف ذلك الرحيل .. رحيل بصمت لكنه كان صمتاً مدوياً تردد صداءه في جهات العالم الأربع، فوقف يلتفت له وينحني أمام موكبه الجنائزي.

كان في رحلة الوداع دقيقًا جدًا، كما خط بيده الكريمة مسار الوطن، يخط بنفسه مساره إلى الخلود.. كما في حياته كان موكبه مهيباً لا يليق إلا بالعظماء مثله وهو سيدهم .. خرج نعشه ملفوفاً بعلم وطن هو من بناءه ورسم خطوطه. كان يعلم تمامًا بأنهم ينتظرونه على ضفاف الشارع ليلقوا عليه تحية الوداع.

فكما كان يليق به وبشعبه، سار الموكب المهيب لسيد عُمان وباني نهضتها تحفه الملائكة، خفيفاً كما نسمة منحدرة من جبال عُمان وفيافيها وسهولها، سار مزهوا بتلويحات الأيادي وقلوب لاهثة له بالدعاء. مرَّ موكبه المهيب، وكانت القمم الشاهقة التي طالما نظر إليها في موكبه وهو ذاهب وعائد من عاصمة ملكه، تلقي نظرة الوداع وتنحني لقامته المديدة التي ستبقى شامخة لن يطويها النسيان.

السلطان الراحل كان ذا نظرة ثاقبة وخلطة عجائبية، في كل الأمور. كان لا يقبل إلا أن يكون هو المعادلة الأصعب، كان هو المنتصر مهما طال الزمن. دون ضجيج إعلامي أو خطب رنانة في مؤتمرات صحفية مملة يستهلك فيها الكثير من الحكي، بصمت وحكمة واقتدار أرسى الدعائم ونشر السلام وبنى الوطن. 

كان هو بحق أعز الرجال وأخلصهم. إنَّ الرجال العظام يعرفون بالإنجازات والآثار التي تركوها وهم يرحلون.

السلطان قابوس جاء في وقت عصيب جدًا كان يمر على عُمان. في تعليق جميل لأحد الإخوة، قال بأن السلطان قابوس ورث عُمان ليست فقط على الصفر ... بل كانت بالسالب.

أي قوة كانت كامنة في ذلك الشاب المُلتحي الذي يخطو خطوات واثقة وهو ينزل سلم الطائرة ميممًا شطره نحو الأفق البعيد.. أي وهج سيبعثه في روح المكان ويعيد الألق له والتوهج؟  جاء فأعاد لعُمان وهجها الحضاري، رسخ الهوية العمانية التي كانت على وشك الامتزاج مع هويات أخرى، أعاد للوطن تاريخه ومساره.

منذ اليوم الأول لتولي الحكم أطلق ذلك الشعار الذي أصبح نهجًا عمليًا عندما قال سنعلم أبناءنا حتى ولو تحت ظل الشجر. إدراكًا منه بأنَّ الأوطان لا تبنى إلا بالعلم. لم ينتظر بناء المدارس والجامعات والمعاهد، وإنما ترافق كل ذلك مع عملية واحدة اختلطت مع بعض وأنتجت وطناً بمواصفات عصرية، فجاب السهول والجبال والشواطئ ليقف بنفسه ويشاهد بعينه ويتلمس بيده الاحتياجات والمتطلبات.

أي ذوق فنان مثقف تمتلك ... سلطان مثقف من طراز آخر .. يختار مصطلحاته بعناية فائقة، اهتم بالبيئة فأنشأ وزارة لها، قال بأنَّ العماني لا يُمكن أن يكون كالإله فيتعطل عن العمل، فيستبدل العاطلين عن العمل والبطالة بالباحثين حتى يكون المصطلح منسجماً مع حركة نشطة لا تعرف الكلل.

حافظ على الفنون العُمانية كان مغرماً بالموسيقى فأمر بتأسيس فرقة عُمان للموسيقى السيمفونية، وأنشأ دار الأوبرا وأطلق إذاعة خاصة تعنى بالموسيقى الكلاسيكية العربية والأجنبية. كرَّم العديد من الفنانين ومنحهم أعلى الأوسمة ... أنشأ جوائز أدبية ومجتمعية، وجوائز عالمية للسلام والبيئة، مول العديد من المؤسسات الثقافية والدينية على مستوى العالم.

 لا أحد كان يعلم كيف كان يفكر ذلك الإنسان الذي أذهل العالم في حكمته، ففي صمته حكمة وفي هدوئه قوة وفي نطقه بلاغة وفي إشارته وتلميحاته عبارات واضحة الدلالة. قيل الكثير بأنَّ الناس على دين ملوكهم. فها هو يترك شعباً تعلم منه الكثير. بحكمته التي تشربها منذ الصغر، كان يسير الأمور بمهارة ودقة استطاع أن يجتاز الكثير من الصعاب.

لم يجامل في موافقه ولم تُغريه اللغة الدبلوماسية الماكرة والمتخشبة، خط لنفسه نهجاً وطريقاً فكان الصواب حليفه، أي ميزان دقيق ذلك الذي تزن به؟

عندما كثرت الأقاويل والتأويلات وبلغت درجة من الأساطير عن حالته المرضية، ظلَّ بصمته المعتاد وحكمته، لا يتزحزح قيد أنملة. ترك الجميع ولم يتدخل فيما يعتقدون، لكن عندما سكتت الأفواه وجفَّ حبر تلك الأقلام، وكعادته هو من اختار الوقت المناسب ليلقي عليهم تلويحة الوداع، وبكل حكمة أيضاً يلقي في وجوه المشككين حكمة وبلاغة أخرى، فيضع يده ويربت بها على كتف من سيأتي بعده. لا يقول شيئاً فنظرته كانت كافية مُعبرة عما يُريد قوله، نظرته كانت واثقة بأن عُمان سائرة كما يريد. 

تحدثوا عن الديمقراطية وغيرها لكن كان له نهجًا مُغايرًا متميزا، وبطريقة مختلفة سيذهل العالم بها، لن يرضى إلا بأن يخط نظريته الخاصة في انتقال الحكم التي ستصبح مداراً للبحث والتنقيب.

كان مذهلًا ومتفردًا في كل شيء لا أحد يشبهه ولا أحد يبلغه .. فكان ملكا وسلطانا بكل جلال الكلمة ومعناها. كانت له خياراته المختلفة والمغايرة وقناعاته العصية على الغير، كان مذهلا في قيامه وجلوسه ونطقه وتلويحاته وإيماءاته وحتى ابتسامته كانت مختلفة. اختار لنفسه برتوكولا صارماً. دون أن تراه، يكفي أن تسمع تلك النغمة الموسيقية التي طبعت حضوره، فتدرك مدى الحضور الطاغي له. منفردا ومتميزا في كل شيء عندما يتحرك تحسب بأنَّ عالما بكامله ينهض ويتحرك من مكانه وعندما يقف وكأن العالم يقف إجلالا. 

حتى عندما رحل كان وقت رحيله منسجمًا مع حياته وهيبته، فبكل بساطة رحل، وكما أذهل العالم في حياته ها هو يذهله في رحيله، فابتداء من موكبه المهيب الذي لا يليق إلا بالعظماء وبجلالة قدره وعظمة مقصده، والبساطة التي تخللت التشيع والعربة التي حملت جسده الطاهر، وقبره الشاهد، كل ذلك لم يخل من الرموز والدلالات.

 كيف لا، وهو الذي اختار أن يكون بين شعبه في حياته وفي رحيله. الكل اجتمع على حبه الكبير والصغير والمقيم والعامل البسيط. ليس بغريب ولا عجيب أن يجتمع في حبه الكل حتى العمال البسطاء في المزارع وورش البناء يبكون بابا قابوس. بهذه المناسبة جاءني اتصال من دولة عربية، كان المتصل يبكيه بحرقة ووجع شديد، قال الكثير عن مناقب الراحل، لكن ما استوقفني عندما ذكر بأننا لم نرى منه إلا الخير، وهو الذي لم يزر عُمان قط. فقط ساعتها تدرك كيف لحضور الصمت أن يفعل كل هذا.

كما قلت يوماً يا سيدي.. إن الأيام في حياة شعبنا لا تقاس بوحدات الزمن، وإنما بوزن ما تفتحه من آفاق، وما تلهمه من أفكار، وما حولته من الآمال إلى واقع حي.

لكن الزمن مر سريعًا ...

كل الساعات سوف تعبر يا سيدي إلى زمنها ..

إلا الرابعة فجراً.. ستتوقف عقاربها وتستوطن ذاكرة الوطن..

سلام على روحك الطاهرة، ونم بسلام قرير العين.

تعليق عبر الفيس بوك