حمد بن سالم العلوي
لقد رَحل السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه- إلى رحمة ربِّه بجسده كإنسان، ولكن قابوس القائد لم يرحل ولم يمُت، وقابوس المعلِّم لم يتوقف عن التعليم، وقابوس المُلهِم سيظل كذلك مشعلَ إلهام، وقابوس المُحب سيظل يسكن قلوب وعقول أهل عُمان والعالم أجمع، لقد عرفه العالم بخِصاله الكريمة، وصفاته الحميدة، وبحكمته الفذة، وبصيرته النيّرة، وأنه كان محبًّا للسلام وعاملًا به، وإنه فاعل للخير والناس نيام، وإنه حقق ما كان يصبو إليه من صداقة عُمان للعالم، وقد بادله العالم الحب بحب واحترام له كقائد، وعُمان كبلد عظيم يشع بالمحبة والسلام.
لقد سألني أحد الإعلاميين الفلسطينيين المعروفين من خلال عمله في فضائية مشهورة، قائلا: لماذا يخفي جلالة السلطان قابوس العطايا والهبات التي يُعطيها للشعب الفلسطيني، خاصة أهل غزة؟! فقلت له؛ هذا جزء من أسباب محبتنا له؛ لأنه علَّمنا فضيلة وظل يطبقها على نفسه، فهو يريد أن يؤدي واجبه بصدق كما أمره ربِّه، بحيث لا تعلم يساره ما أعطت يمينه، وهنا يكون العطاء الذي لا تتبعه مِنة ولا أذى، وهذا ديدنه ليس مع الأهل في فلسطين وحدهم، وإنما في كل مكان حول العالم.
أمَّا إذا جئت إلى العشق العُماني لهذا القائد الفذ الحكيم، فإنَّ من كان يعيش في عُمان قبل عام 1970م فكان يعرف أنَّ الصحة والتعليم كان مجرد الحديث عنهما ضرباً من ضروب الترف، وقس على ذلك كل الخدمات الأخرى، وعُمان قبل تولي السلطان قابوس مقاليد الأمور فيها، كانت تعيش واقعاً في القرون الوسطى، هذا إذا استثنينا ثلاثاً من المدن العُمانية فقط؛ هي: مسقط ومطرح وصلالة، فقد كانت تعيش على بصيص ضئيل من مكونات الحداثة؛ حيث توفر للخاصة بعض مقاعد التعليم، وبشروط وضوابط لا يقدر عليها إلا أصحاب الحظوة والشأن الرفيع، وكذلك بالنسبة للتيار الكهربائي -وكان لساعات محدودة - وكذا خط الهاتف للضرورة القصوى الملحَّة، ولبعض عِلية القوم فقط، إذن لا مقارنة تذكر بين ذلك الزمن، واليوم في 10 يناير 2020م يوم رحل مُحدث النهضة الكبرى، ومتعهدها بالرعاية حتى بعد مماته، وكل هذه الحضارة الماثلة أمام أعيننا اليوم على هذه الأرض السعيدة، لن تندثر برحيله، بل ستظل حاضرة ومتطورة -بإذن لله- وأن ليس من أحد في عُمان، بمقدوره أن ينسى أفضال السلطان قابوس عليه، وكيف ينسى وكل بقعة -بل كل زاوية- تقول له "أنا" قابوس عُمان.
لقد أفنى كل عمره في سبيل عُمان، ومن أجل الشعب العُماني الأبيّ، الذي بادله المحبة بالعشق، والوفاء بالإخلاص، وحتى السنوات الست الأخيرة من حياة جلالته، والتي قضاها في صراع مرير مع المرض، فقد مرضت عُمان كلها مع سلطانها؛ فتداعى الشعب معه لمرضه بالحمى والسهر، والألم النفسي مع سلطانه وحبيب القلوب، وصمت الجميع عن المطالبة بالحقوق الواجبة، كالترقيات والعلاوات الدورية، وحتى المتقاعدين الذين بَخست بعض التشريعات حقوقهم في توحيد معاشات التقاعد، سكتوا وقالوا صحة جلالة السلطان قابوس المعظم مقدمة على كل شيء.
لقد قدَّر الله وما شاء فعل؛ فترجَّل الفارس الملهم عن صهوة عُمان "شكلا"، ولأن قلبه كان متيماً بحب عُمان وشعبها، ورغم أنه كان مطمئناً بأن البناء قد اكتمل، وإنه قد أرسى ثوابت قوية لدولة المؤسسات؛ وذلك بعدما سهر عليها خمسين عاماً، فاكتمل البناء بمرافقة منظومة رائعة من القوانين والتشريعات، وكان صهوة صهوتها النظام الأساسي للدولة، حتى صارت البلاد على هذا القوام الجميل من التنظيم المنسق، الذي يليق بقدر عُمان، ومكانتها المرموقة بين دول العالم قاطبة؛ فقد آل على نفسه إلا وأن يصوغ جوهرة التاج العُماني الرفيع، فوضع ذلك في وصية سرية مغلقة في ظرف مختوم، ولكن فُهم من الأحرف التي حملها الظرف الذي ضم بداخله نسخًا للتأكيد على الوصية السامية، أنه كتب في حقبة التسعينيات من القرن الماضي، وليس وليد اليوم، عندما عصر جسده شدة السقم، فقد توسَّم ببصيرته الثاقبة شخصية الفارس الذي سيخلفه على صهوة عُمان المباركة، وأنه الجدير بحمل الأمانة، والسير على نهج السلاطين الذي هو سليلهم، ذلك لما اتَّصف به من حكمة وهدوء وسداد رأي الشخص الموصى به.
إذن؛ لقد رحل السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور إلى دار حق عند مليك مقتدر، ولكن خلَّد من بعده في عُمان الأبية أمجاد وشأن عظيم، يشعُّ في الكون قبساً منيراً طاف أرجاء الأرض محبة وسلاماً، لن يتزحزح نوره، ولن يخفُت ضياؤه إلى الأبد، وإن حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم -حفظه الله ورعاه- لم يكن بعيداً عن منصة القيادة، وإن كان لم يظهر شغفاً بها ولا بالسلطة، ذلك الذي كان يرقبه الناس فيه، ويلاحظونه عليه، فهو زاهد في حب السلطة، مفعم بحب عُمان وجلالة السلطان الراحل، ومقيِّد النفس بوقار السلاطين، ونعيم الضوابط بالأخلاق الحميدة، وأحبه الشعب العُماني بصمت، ولأن قلب السلطان قابوس مقترنٌ بقلوب الشعب، خشي البعض أن يزهد في السلطة، ولكن عندما قُرء عليه التكليف، علق بالقول: "لله الأمر من قبل ومن بعد"، وهكذا حال القادة العظام، فإنهم يتأففون من مسؤوليات القيادة لثقل الأمانة، وجسامة المسؤولية.
لقد ورَّث جلالة السلطان المرحوم الدروس تلو الدروس، فحتَّى انتقال الحكم جعله درساً عمليًّا بليغًا لمن يأتي بعده، ويعدُّ تميزاً في سلوك الإنسان العُماني، أكان حاكماً أم محكوماً؛ مصداقاً لقوله تعالى: "..وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ" صدق الله العظيم، ولأن الحكمة القابوسية ظلت حاضرة، فقد انتقل الحكم بسلاسة ويسر، وستظل عُمان أبد الدهر البلد الاستثناء الذي يقدم العقل على العاطفة، فبويع جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور سلطاناً لعُمان، وإن جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله وأيده بالنصر والتوفيق- سيكون خير خلف لخير سلف، ليس لأنه كان شريكاً في الحكم، ولكن لأنه كان الأقرب إلى المعترك اليومي للحياة، فالمعايشة ليست كمن سمع.
فكان جلالة السلطان الراحل، يرى ويقدر بنفسه الأمور، وذلك دون الحاجة إلى تقارير يكتبها إليه متخصصون في البلاغة والسرد الكتابي؛ لذلك فإن النهضة العُمانية ستستمر مع إضافة تطويرية كبيرة عليها، ونحن كشعب عُماني مطمئنون للقيادة الحكيمة لجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم، وعلى كل واحد منا أن يعلن المبايعة عن نفسه وأهله، على السمع والطاعة في العُسر واليُسر، والمنشط والمكره، وأن نكون السد المتين، والناصح الأمين، مُعتصمين دائماً تحت قيادته الرشيدة بوحدة الصف والكلمة الواحدة، ووحدة الهدف، ألا وهو الرقي بعُمان والولاء لجلالة السلطان هيثم بن طارق -أعزه الله- ولا نقول إلا اللهم ارحم السلطان قابوس، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع الأنبياء والصديقين.. إنك سميع مجيب الدعاء.