قابوس .. حتى في الضَراء جمع الفرقاء

د. أم السعد مكي – الجزائر

جسَدت مراسيم تلقي التعازي في المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد واحدة من أشد الأحلام التي تاق إلى تحقيقها، حين قال خلال منتصف السبعينيات "حلمي أن أضع أصبعي على أي مكان في خارطة العالم ويكون صديقي لا عدوي"، وقد تناقلت منصات التواصل الاجتماعي في مشهد فريد من نوعه التفاف "الفرقاء" في البلد الواحد على تعزية فقيد الأمة، فكانت رسالة واضحة المعالم، جليَة الدِلالات بأن السلطان كان أخا وصديقا صادقا للجميع.

متابعة قوافل القادمين من أقاصي الأرض وأدناها لتعزية الشعب العُماني في فقيد الأمَة، والتي أظهرت للمرة المليون بأن السلطنة ورغم أنها تحاول بصعوبة تجاوز محنتها، والتجلد لمواجهة القادم، هي محجة العالم في السرَاء والضرَاء، وهي اليوم تفتح أبواب قصر "العلم" لاستقبال المتعاطفين معها من عرب وعجم بشكل يبعث على الفخر بكونها تصنف في صدارة الأمم، كيف لا وهي "أول منطقة تطلع عليها الشمس في الشرق الأوسط، وهي تعيش ببركة دعاء رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، إذ كان أهلها أول المبايعين له، هي المحجة الموجودة منذ فجر التاريخي بمادته "البرونزية والحديدية"، وهي وإن تعددت تسمياتها بين "مجان" و"مزون" تبقى السحابة الممطرة، وتبقى رض الطهر والنقاء، ومرقد الأنبياء عليهم السلام.

سلطنة عُمان "بلد السلام والتعايش السلمي"، تبكي قائدها الفذَ السلطان قابوس بن سعيد- رحمه الله- ، الذي قال يوما بصيغة النفيَ المطلق: "لا يمكن لأمة من الأمم أن تدرك غايتها إذا لم تعمل يدًا واحدة"، وهو إذ ينفي في المطلق لم يكن وحده يؤمن بصدقية هذا الافتراض، والذي أصبح مثبتا وبإجماع شعبه وأسرته المالكة، قد يستغرب البعض ذلك، غير أن هذي الإرادة موجودة وكشفت عنها "الوصية"، احتكام للسلطان في الحياة والممات، وهو انعكاس صادق وعودة تلقائية في تسليم تامِ بسداد الخطوات وسلامة الرؤية، والتشبث بديمومة الدولة رغم انتزاع الموت للأصفياء.

السلطان قابوس، هذا الذي خلق "عصر النهضة"، يضاهي نهضة الآباء الأوائل والمحدثين الأوروبيين، وهو الذي أسبغ على الدولة عباءة الشورى والإمامة الإباضية، وعرَج بها إلى فضاء القرارات للإدارة الحديثة، وهو يفتخر بإرث أسلافه: الفراهيدي، المهلب ابن أبي سفرة العماني، واحمد بن ماجد  (ألميرانت- أمير البحر)، وهو ابن دولة أوجدت أول سفير عربيَ لدى أمريكا، ويحمل في آن كدمات "هولوكوست زنجبار"، وهو الذي شهدت بلده إنشاء أول صحيفة عربية "عمانية" في 1800، وهو ما يستوجب إعادة ترتيب تاريخ الإعلام العربيَ.

افتكَ السلطان قابوس لعُمان عدة ألقاب وتصنيفات وتسميات، فجعل منها "الوجهة الآمنة للاستثمار"، أعاد لها ثقلها الاقتصادي العالمي والاستراتيجي منذ عصر الأجداد الأوائل، وهي في تصنيفات أدلَة السياحة العالمية تحتل الصدارة، وهي أكثر من ذلك برد السخاء والرخاء بشهادة المؤرخين والبحَارة والرَحالة "عمان تعمَ بالخير، تجارتها واسعة، وصيدها وافر"، فهي المنفذ الضارب لليوم في أعماق التاريخ وما تزال تُذكر بطريق اللبان، وخطوطه الرابطة بين روما والصين تضاهي في ذلك طريق الحرير، وهي لليوم تسمو وتزهو بقلاعها وحصونها وسلاسل الجبال، ولمن أراد أن يعرف الذوق الرفيع لسلطانها فما عليه سوى الدخول من باب "دار الأوبرا السلطانية" العظيم، حيث ترقد في صمت ضاجِ كل هداياه ومقتنياته التي لم يبخل بها على كل وافد، وهي شيمة من جعل قلبه قالبًا للسلطنة.   

إن أكثر ما يحزَ في النفس أن تبقى شجرة "لماشوه" متشبثة بجذورها الضاربة في فجر التاريخ، وأسماك شواطئ "شناص" تتكاثر في سخاء كبير، ومدافع "فينبانكر" ستظل تدافع  وبلطف كبير عن تاريخها في زاوية الحصن العتيق، ولكنها لن تشهد جلالة السلطان قابوس وهو يشرف على احتفالات سلطنة عمان بعيدها الوطني الخمسين، رحمك الله وطيب ثراك، إنا لله وإنا إليه راجعون.

 

تعليق عبر الفيس بوك