"المؤتلف الإنساني".. دواء عُماني لعالم مضطرب

التسامح والتعايش والتفاهم.. مفاتيح السلطنة لتعزيز العلاقات الإنسانية بين الأمم

 

 

  • قابوس: فُطرنا في هذا البلد على السماحة وحسن المعاملة ونبذ الأحقاد ودرء الفتن
  • السلطنة تتصدر استطلاع "إنترنيشنز" لأكثر الدول ترحيبا بالمغتربين
  • التقارير السنوية للحريات الدينية تخلو من رصد أي انتهاكات في السلطنة

 

 

الرؤية - هيثم الغيتاوي

لم يكن من قبيل الصدفة؛ أن تتصدر السلطنة قائمة الدول الأكثر ترحيبا بالمغتربين على مستوى العالم؛ ضمن نتائج الاستطلاع السنوي لشبكة "إنترنيشنز" العالمية؛ الذي شارك فيه أكثر من 14 ألف مغترب من 191 دولة لتقييم عدد من جوانب الحياة خارج أوطانهم، بما في ذلك سهولة الاندماج في المجتمع، و"طلاقة وجه" السكان، وسهولة إقامة صداقات. وضمن الدول الخمس الأولى في هذه القائمة؛ كانت السلطنة الدولة العربية الوحيدة التي أجمع المشاركون في الاستطلاع على أنّها الأكثر حفاوة بالوافدين، مؤكدين أنّ العمانيين يتسمون بالود والترحاب ويتعاملون مع الوافدين برحابة صدر، ودون تحفظ.

لذلك لم يكن النص في المادة الـ 17 بالنظام الأساسي للدولة على أن (المواطنون جميعهم سواسية أمام القانون، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللون أو اللغة أو الدين أو المذهب أو الموطن أو المركز الاجتماعي)؛ مجرد نص ديكوري؛ كما هو الحال في بلاد أخرى؛ تدفع ثمن ذلك من استقرارها وأمان مواطنيها.

وفي معرض تأكيده على ضرورة منح ‏السياحة أولوية في برامج التنمية المستقبلية بالسلطنة؛ فقد وضع جلالة السلطان قابوس "الروح السمحة للمواطن العماني"، جنبا إلى جنب ما تزخر به السلطنة من مقومات سياحية، وتراث عريق، وطبيعة متنوعة، وبيئة نقية، وفنون وصناعات الشعبية، بالإضافة إلى الأمن والاستقرار.

وكثيرا ما أكد جلالة السلطان قابوس في العديد من خطاباته وحواراته الصحفية على ضرورة التمسك بهذه المبادئ التي ضمنت السلاك والأمان للسلطنة داخليا وخارجيا؛ ومن ذلك قوله: (لقد فُطرنا في هذا البلد - ولله المنة والحمد- على السماحة وحسن المعاملة ونبذ الأحقاد ودرء الفتن والتمسك بالأعراف والقيم القائمة على الإخاء والتعاون والمحبة بين الجميع... وكما لا يمكن السماح باحتكار الرأي وفرضه على الآخرين؛ لا يمكن في الوقت ذاته السماح بالتطرف والغلو من جانب أي فكر كان؛ لأن في ذلك إخلال بالتوازن الواجب بين الأمور والذي على أساسه تُتخذ القرارات الحكيمة التي تراعي مصالح الجميع. إنّ الفكر متى ما كان متعددا ومنفتحا لا يشوبه التعصب كان أقدر على أن يكون أرضية صحيحة وسليمة لبناء الأجيال ورقي الأوطان وتقدم المجتمعات؛ وإن التشدد والتطرف والغلو على النقيض من ذلك. والمجتمعات التي تتبنى فكرا يتصف بهذه الصفات إنما تحمل في داخلها معاول هدمها ولو بعد حين؛ لذلك نؤكد رفض مجتمعنا العماني لأية دعاوى لا تتفق وطبيعته المتسامحة المعتدلة... فسياسة السلطنة قائمة على تحقيق التوازن في الحياة).

وفي أول خطاب له؛ قال جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور، حفظه الله ورعاه، إن "عزاءنا الوحيد وخير ما نخلد به إنجازات السلطان الراحل هو السير على نهجه القويم والتأسي بخطاه النيرة التي خطاها بثبات وعزم إلى المُستقبل والحفاظ على ما أنجزه والبناء عليه"؛ كما أكد على الثوابت التي اختطها لسياسة بلادنا القائمة على التعايش السلمي بين الأمم والشعوب، باذلين الجهد لإيجاد حلول مرضية لها بروح من الوفاق والتفاهم.

ولأن السلطنة تحتضن – وفق أحدث الإحصائيات – أكثر من مليوني مُقيم من مختلف الجنسيات؛ يمثلون نحو 44% من إجمالي عدد السكان؛ فقد باتت قيم التعايش أمرا واقعا على مختلف الأطراف؛ حيث حرصت الأجهزة المعنية - في مختلف المجالات- على توفير كل ما من شأنه أن ييسر سُبل التعايش بين المواطنين والوافدين؛ ولو باعتبارهم ضيوفا على السلطنة؛ وهو ما يظهر في الكثير من التفاصيل؛ منها مثلا: جمعيات الصداقة الدولية؛ والنوادي الاجتماعية للجاليات الأجنبية؛ ومدارس الجاليات؛ وحتى بين سطور المناهج التعليمية في المدارس الحكومية التي تزرع في نفوس الأجيال الجديدة ما يجعلهم أكثر انفتاحا على العالم ومُختلف ثقافاته وحضاراته.. وهي فضيلة؛ يمتد أثرها الإيجابي في نفس وعقل كل عُماني؛ سواء في تعايشه مع "ضيوف بلاده"؛ أو حتى في تعامله مع شعوب العالم حين يكون هو نفسه ضيفا على بلادهم؛ مُتعلما ومُتدربا وسائحًا.

وقد يُفسّر ذلك تناغُم سياسات السلطنة – داخليا وخارجيا- مع أهداف ومرتكزات المبادرة الدولية لتحالف الحضارات، التابعة للأمم المتحدة، وتأكيد ريادتها - عبر أكثر من محور- في الالتزام بنشر رسالة التسامح والتعايش بين مختلف الحضارات والأديان؛ مُرتكزةً في ذلك على سماحة الدين الإسلامي الحنيف الذي عاشت في كنف حضارته شعوبٌ من مختلف العقائد والأديان.

وتُبرز الخطة الوطنيّة الخاصّة بتحالف الحضارات جهود السلطنة فيما يتعلق بتعزيز التواصل والتفاهم بين الثقافات ودعم التعايش السّلمي بين شعوب العالم، إضافة إلى اشتمالها على قائمة ثرية بالبرامج والفعاليات الداعمة والمُعززة لأهداف تحالف الحضارات على أرض الواقع؛ في المجالات الأربعة التي تستهدفها المبادرة الدولية؛ وهي: التعليم، والشباب، والهجرة، والإعلام.

ولعل ما يُميز الخطة العُمانية أن غالبية برامجها تتصف بالاستمرارية، إذ تعتمد بالأساس على الأنظمة والقوانين المعمول بها أصلا في السلطنة قبل زمن طويل من ظهور مبادرة تحالف الحضارات في العام 2007. وفي هذا الإطار؛ يأتي النّظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (101/96) في 6 نوفمبر 1996 في مقدّمة الأنظمة والقوانين التي ترتكز عليها الخطة؛ من تأكيد على قيم ومبادئ التعايش والسلم بين شعوب العالم بمختلف انتماءاتهم ومعتقداتهم، ومن ذلك ما نصت عليه المادة العاشرة من النظام الأساسي: (توثيق عرى التعاون وتأكيد أواصر الصداقة مع جميع الدول والشعوب على أساس من الاحترام المتبادل، والمصلحة المشتركة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ومراعاة المواثيق والمعاهدات الدولية والإقليمية وقواعد القانون الدولي المعترف بها بصورة عامّة بما يؤدي إلى إشاعة السّلام والأمن بين الدول والشعوب).. كما يضمن النظام الأساسي توفير كل ما من شأنه تمكين كلّ مقيم على أرض السلطنة من العيش بأمان وطمأنينة؛ إذ تنص المادة 35 منه على أن يتمتع كل مقيم على أرض السلطنة بصفة قانونية بحماية شخصه وأملاكه طبقًا للقانون، وعليه مراعاة قيم المجتمع واحترام تقاليده ومشاعره.

وتلتزم كافة الأجهزة الحكومية بالعمل على تنمية مبادئ الحق والعدل والمساواة والاحترام المتبادل مع العاملين غير العُمانيين والمُقيمين بالسلطنة والزائرين لها، وفق قيم المجتمع العُماني ونظمه القانونية.. إلى جانب الحرص على احترام خصوصية الهوية الثقافية والدينية لجميع الوافدين واستثمار فرص الحوار والتّبادل الثقافي والتقارب الحضاري فيما بين المُقيمين بعضهم بعضًا؛ وكذلك في مختلف تعاملاتهم مع المواطنين.

ومن جانبها؛ تُعنى وزارة التنمية الاجتماعية بالمقيمين على أرض السلطنة؛ وتحرص على توفير جوٍ من التآلف والتعاون بين أفراد الجاليات من خلال التصريح بإقامة أندية اجتماعية لهذه الجاليات في مسقط؛ إلى جانب بعض محافظات السلطنة، بهدف تنظيم مختلف الأنشطة والفعاليات الثقافية والاجتماعية والرياضية حتى يشعر المقيمون على أرض السلطنة بأنهم في بلادهم.

وبدورها؛ تُشرف وزارة الخارجية العُمانية على عدد من جمعيات الصداقة الدولية؛ بهدف تنويع الخدمات والمسارات الدبلوماسية؛ وتحفيز منظمات المجتمع المدني لتحقيق مستويات أعمق وأكثر تفصيلا في العلاقات مع شعوب العالم.

وتعمل جمعيات الصداقة - كمؤسسات غير سياسية وغير ربحية- على تعزيز العلاقات الثنائية بين السلطنة والبلاد التي تمثلها هذه الجمعيات في مجالات متنوعة؛ تشمل الاقتصاد والتجارة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والصحة والتعليم والثقافة والسياحة والشباب والرياضة؛ وغيرها من مجالات التعاون الهادفة إلى تقوية الصداقة والتفاهم بين البلدين؛ عبر تنظيم الندوات والاجتماعات والمعارض المشتركة، وإصدار وتوزيع الدوريات والمطبوعات الإعلامية ذات الصلة، وتبادل زيارات الوفود غير الرسمية على جميع المستويات؛ مثل وفود رجال الأعمال والمؤسسات التربوية والعلمية والحملات السياحية وممثلي الجمعيات الثقافية والرياضية وأعضاء الفرق الفنية الشبابية، وغيرها.

وفي الجوانب الروحية والدينية؛ تبذل السلطنة مُمثلة في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية جهودًا حثيثة لنشر وتعزيز القيم المشتركة والتفاهم المتبادل والتعايش السلمي ونبذ الكراهية والتعصب بين مختلف الدول والشعوب والثقافات.. وفي سبيل ذلك تنظم الوزارة سلسلة معارض بعنوان "رسالة الإسلام من عُمان" في العديد من المدن حول العالم؛ بما يتفق مع الرؤية السامية لجلالة السلطان قابوس بضرورة نبذ كافة أشكال ومُسميات ودوافع التطرف والتعصب والتحزُّب وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى الفُرقة والشقاق.

ومنذ إطلاقه في العام 2010؛ زار المعرض حتى الآن 130 مدينة في 37 دولة حول العالم؛ لنشر مظلة القيم الإنسانية المشتركة بين شعوب العالم. وقد اكتسب المعرض قبولا متناميا في الأوساط العالمية، وتم التنسيق بشأنه مع عدد من المنظمات العالمية وأهمها منظمة الأمم المتحدة ومنظمة اليونيسكو، والعديد من المراكز الدينية المهتمة بنشر القيم المعتدلة والدعوة إلى السلم والعيش المشترك بين الناس ومختلف الثقافات والأديان.

تميزت محطة معرض "رسالة الإسلام من عُمان" في العاصمة الإندونيسية جاكرتا؛ بتزامنها مع احتفاء دول العالم باليوم العالمي للتسامح الذي وافق السادس عشر من نوفمبر 2019؛ وصارت الأكثر تميزا بما شهدته من تدشين مشروع إعلان السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني.

ويهدف المشروع إلى نشر قيم التفاهم بين شعوب العالم بما يُعزز العلاقات الإنسانية بين الأمم؛ والمساهمة في وضع نهج يعيد التوازن بين المصالح واقتراح منهج عمل يُقدَّم للعالم المضطرب ليعينه على النهوض من جديد، ليعيش الناس حياة متوازنة على أساس من الكرامة والحقوق الأساسية والأمان النفسي.

وبناء عليه، ليس من المُستغرب أن تخلو التقارير السنوية لوزارة الخارجية الأمريكية حول الحريات الدينية من رصد انتهاك واحد للحريات الدينية في السلطنة. مع العلم بأن التقارير السنوية للجنة الأمريكية للحريات الدينية؛ تُعد من أبرز المؤشرات في هذا المجال على مستوى العالم؛ باعتبارها هيئة مستقلة من هيئات الحكومة الفيدرالية وتقدم توصياتها إلى الرئيس الأمريكي، والكونجرس، ووزارة الخارجية الأمريكية.

وفي كل عام تشيد تقارير الحريات الدينية بعدم وقوع أي انتهاكات في المجتمع العماني على أساس المُعتقد أو الممارسة أو الانتماء الديني؛ وتؤكد أن الطوائف غير المسلمة فى السلطنة يُسمح لهم بممارسة معتقداتهم دون أي مضايقات؛ مع التنويه في تقرير العام 2009 بأن السلطان قابوس تبرع بقطعة أرض خُصصت لممارسة هذه الطوائف لشعائرهم الدينية.

وإلى جانب الضوابط والمعايير التي تفرضها الحكومة للموافقة على تسجيل الجماعات الدينية غير المسلمة في السلطنة؛ تفرض الدولة معايير وضوابط أيضا لتمنح موافقتها على تكوين جماعات إسلامية جديدة؛ وكدليل على أن الضوابط العامة التي تفرض الدولة الالتزام بها لا تتعلق بديانات أو طوائف على حساب أخرى؛ فإن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية تضع نظاما موحدا لضمان أن الأئمة لا يستغلون خُطب المساجد للترويج لمواضيع خلافية.

وتحرص الحكومة العُمانية على رعاية منتديات تناقش مختلف تفسيرات المذاهب الإسلامية، إلى جانب منتديات الحوار بين الديانات، وكذلك السماح بوجود جماعات أهلية لترويج الحوار بين الأديان طالما أن المناقشات لا تشكل محاولة لرد المسلمين عن معتقداتهم الإسلامية.

كما ترحب وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالالتقاء بزعماء دينيين غير مسلمين يزورون السلطنة لمناقشة أوضاع جالياتهم وبحث إمكانية السماح لهم بإنشاء دور عبادة جديدة. وعلى سبيل المثال؛ فقد خصصت الوزارة مساحة 10 آلاف متر مربع لأحد المجمعات المسـيحية في مسقط لإقامة توسعات في مرافقها.

تعليق عبر الفيس بوك