قابوس: الرجل الذي أحب عُمان

 

الرؤية - محمد البرمي

"أيّها الشعب سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل... لقد كان بالأمس ظلاماً ولكن بعون الله غداً سيشرق الفجر على مسقط وعمان وعلى أهلها"..

كانت تلك واحدة من الخطب التاريخية البليغة التي ألقاها جلالة السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- في عام 1970 مخاطباً شعبه عبر أثير الإذاعة.. واليوم وبعد مرور 49 عاماً يمكنك أن ترى كلام هذا القائد الحكيم متحققاً على أرض الواقع.

قابوس.. الرجل الذي أحب عمان، بالتأكيد سيتبادر إلى الأذهان أنّ الجميع من أبناء هذا الوطن يحبه، لكن عملاً بالقول "لا تقل لي أحبك لكن دعني أرى ذلك"، فخلال 49 عاماً من النهضة المباركة يتجلى ذلك الحب الفريد والعشق غير المسبوق، يتحول من أقوال إلى أفعال، فتحولت معه الصحراء إلى واحات غناء تعمرها منازل ومصانع وشركات، ومطارات وموانئ، انتقلت عمان من ظلام الأمية إلى نور العلم والمعرفة، ومن فقر الحال إلى عز الصحة والعافية.. الجميع يحب، لكن قليلٌ من يعمل بهذا الحب.

 

 

 

"كان بالأمس ظلام؛ ولكن بعون الله غدًا سيشرق الفجر على عُمان وعلى أهلها".. (البيان التاريخي الأول إلى الشعب يوم تسلم جلالته زمام الحكم 23 يوليو 1970).

خلال 49 عاماً ارتكزت النهضة العمانية على وجود إرادة سياسية قوية وفلسفة واضحة وعزيمة صلبة من أجل تحقيق "الحلم العماني"، حيث مثلت قيادة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- بفكره الصائب والنظر إلى المستقبل، قوة دفع ذاتية ليستمر قطار النهضة في السير بشكل دائم، فقامت النهضة العمانية على فلسفة واضحة وهي أنّ الإنسان هو الغاية من التنمية والنهضة وهو أداتها، ولذلك استثمرت الدولة العمانية كل مواردها في المواطن العماني باعتباره أهم ثروة ومورد تمتلكها البلاد.

 

 

 

 

 

"إنّ عزائمكم القوية واندفاعاتكم الأصيلة للنهوض ببلادكم هي الحافز المحرك لمسيرتنا المباركة. نبني ونعمِّر. نرفع صرح العمران شامخا. ونشيد لعُمان حضارة عصرية راسخة الأركان. على أساس صلْبٍ من الدين ومن الأخلاق، والعلم النافع".. من خطاب جلالته في العيد الوطني الثالث 18/11/1973.

لقد انطلق قطار التنمية الاقتصادية في كافة القطاعات عبر ما يقارب نصف القرن، والبداية كانت عندما تسلّم السلطان قابوس السلطنة 1970 وقتها كان العمانيون يعانون العزلة والظلام والفقر، وبدأت الهجرة خارج عمان بحثاً عن الرزق، بالإضافة للأعباء الصحية وغياب التعليم والتطوير، فكانت 23 يوليو 1970 نقلة تاريخية للسلطنة.

وفي العام 1973 افتتح السلطان قابوس مطار السيب الدولي، الذي سيصير لاحقا مطار مسقط الدولي، وقد دوّن جلالته كلمة سامية بمناسبة الافتتاح كتب فيها: "لا شك أنّ افتتاحنا لمطار السيب الدولي بهذا اليوم لخطوة واسعة في تاريخ نهضة عمان الحديثة. إنّ ما شهدناه ولمسناه وسمعناه بهذا المطار وعن هذا المطار يجعلنا نمتلئ فخرا واعتزازا ببلدنا وأبناء بلدنا، وبعدها وفي العام 1977 دخل مطار صلالة قيد العمل، ليدعم عمل المطارات في السلطنة".

في 1974 تأسس البنك المركزي العماني ليعمل على تنظيم النظام المصرفي في البلاد، بعد 4 سنوات من إنشاء "سلطة نقد مسقط" خاصة وأن الروبية الهندية وبعض العملات الفضية كانت العملة المستخدمة. وبدأ التنظيم المالي في عام 1972 عندما أصدر السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- مرسوما جديدًا للنقد في سنة 1972 نصّ على إصدار عملة جديدة باسم "الريال العماني" وإنشاء "مجلس النقد العماني" ونتيجة لعدة تطورات اقتصادية ومصرفية في عمان، فقد أظهرت أهميّة البحث عن صيغة أكثر ملائمة لتنظيم الأعمال المصرفية ومراقبتها، والعمل على تعزيز الموارد المتاحة للدولة، وإيداع الوفورات وادخارات المواطنين والمقيمين في الدولة في القنوات المصرفية الملائمة، الأمر الذي أدى إلى صدور القانون المصرفي لعام 1974 ومن ثمّ تمّ بالفعل إنشاء "البنك المركزي العماني" في أول من ديسمبر عام 1974، وحلّ محل "مجلس النقد العماني".

 

 

 

 

 

 

 

"يسعدني أن افتتح اليوم مشروعا كبيرا اكتملت مراحله وإنجازا مهما تمت مرافقه، يسعدني أن افتتح اليوم هذا الميناء الذي سميتموه أو اقترحتم تسميته بميناء قابوس كاملا بعد انتهاء العمل في آخر أرصفته"، بهذه الكلمات دشّن جلالة السلطان في 20 نوفمبر 1974 ميناء السلطان قابوس بمطرح.

مثّل ميناء السلطان قابوس بوابة عمان البحرية التي من خلالها تنفذ البضائع والسلع إلى السلطنة، كما يتم تصدير أخرى للخارج، كما أسهم الميناء بدور محوري في عملية الجذب السياحي، حتى تحول لاحقا إلى ميناء سياحي بالكامل.

 

 

في 1982 تم تأسيس شركة النفط العمانية للمصافي والصناعات البترولية، وهي كيان اقتصادي جديد، وأنشئت لإدارة كل من الشركة العمـانية للمصافي، والبتروكيماويات وعمـــان بولـي بروبيلين، والعمانية للعطريات البتروكيميائية، ويدير الشركة الجديدة هيكل إداري متكامل يهدف إلى تحقيق أعلى قيمة، واقتصادية لكل من مصفاة ميناء الفحل ومصفاة صحار ومصنع العطريات ومصنع البولي بروبيلين في صحار.

شهد عام 1986 إصدار المرسوم السلطاني رقم 9/86 بإنشاء جامعة السلطان قابوس، وحدد هذا المرسوم بداية الدراسة في الجامعة في خمس كليات هي: كلية التربية وكلية الهندسة وكلية الطب والعلوم الصحية وكلية العلوم الزراعية والبحرية وكلية العلوم، وفي 20 سبتمبر1986م كانت جامعة السلطان قابوس تستقبل رسميا الدفعة الأولى من طلابها وعددهم (557) طالبا وطالبة.

 

 

"إننا نواصل مسيرتنا ونتطور مع الزمن بكافة نواحي الحياة" من خطاب جلالة السلطان إلى الشعب عبر تليفزيون سلطنة عمان 26/11/1975.

 

وفي القطاع الصحي أنشأ السلطان قابوس- طيب الله ثراه- المستشفى السلطاني في عام 1987 والتي تعد من أبرز المنجزات الطبية في عصر النهضة المباركة، وإحدى المؤسسات الصحية الرائدة على مستوى السلطنة في مجال علاج أمراض القلب، وأمراض السكري، وأمراض الغدد الصماء، والأمراض الوراثية، وأمراض الأورام، فمنذ افتتاح هذا الصرح في نوفمبر 1987م، لم يألُ جهداً في تقديم الرعاية الصحية المتميزة للمرضى والمراجعين من مختلف المحافظات بالسلطنة.

وفي العام 1988 أصدر السلطان قابوس مرسومًا سلطانيا بإنشاء سوق مسقط للأوراق المالية، وبمقتضى المرسوم تمّ فصل سوق مسقط لتتحول السوق لجهة لتداول الأوراق المالية مع وجود جهاز رقابي وتشريعي وتنفيذي وهي الهيئة العامة لسوق المال.

وتوالت المشروعات الكبرى فأنشئت الشركة العمانية للغاز الطبيعي المسال 1977، وتقوم الشركة بصفة مباشرة أو غير مباشرة بكافة المشاريع والعمليات والأنشطة اللازمة لإسالة الغاز الطبيعي العماني وتخزينه وتسويقه فضلاً عن تصديره إلى العملاء. وتدير الشركة حالياً في مصنعها بولاية صور ثلاث قاطرات لإسالة الغاز الطبيعي تبلغ طاقاتها الإجمالية 10.4 مليون طن متري بالسنة.

وإلى البحار التي امتاز العمانيون طول تاريخهم بركوبها، كان العام 1998 نقطة انطلاق العمل في ميناء صلالة، والذي يعد من أفضل الموانئ العالمية في مناولة الحاويات، ويتمتع ببنية أساسية متينة. وقد توسّع الميناء بصورة كبيرة اليوم ويعُد الآن جزءا من شبكة تضم أكبر خطوط الشحن في العالم، والتي تنتقل مباشرة عبر الممرات التجارية الرئيسية في آسيا، وأوروبا، والأسواق الناشئة في شرق إفريقيا، وشبه القارة الهندية، والخليج العربي.

وتواصل العمل الجاد، فأنشئ ميناء صحار 2002 كمشروع مشترك بين سلطنة عمان وميناء روتردام، ويعتبر استثمار ستاينويخ في ميناء صحار الصناعي أحد المقوّمات الهامة في تأسيس ميناء بمقياس عالمي الذي يحقق لميناء صحار شهرة عالمية تسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية المتوخاة من مشروع الميناء، وفي 2013 افتتح ميناء الدقم والحوض الجاف.

ويتألف الميناء من كاسر أمواج بطول (8,7) كيلومترات وأرصفة تجارية بطول (2,250) متراً وبعمق (18) متراً وأرصفة للخدمات الحكومية بطول (980) متراً وبعمق (10) أمتار، ومن المتوقع استكمال الأعمال البحرية للميناء في نهاية العام 2012م، كما أنشئ الحوض الجاف بالميناء لصيانة وإصلاح السفن بمختلف الأحجام بما فيها سفن النفط والغاز العملاقة والتي تصل حمولتها إلى (600,000) طن حيث يشتمل المشروع على حوضين جافين بطول (410) أمتار لكل واحد منهما وعرض (95) متراً و (80)متراً وارتفاع (14) متراً وعمق (10) أمتار وأرصفة بطول (2,800) متر ، إضافة إلى إنشاء المباني والورش والمرافق الخدمية اللازمة للتشغيل.

 وإلى الدين والمساجد والصروح الكبيرة، ففي 2001 افتتح أكبر مسجد وأجمل مسجد في السلطنة (جامع السلطان قابوس الأكبر والذي أصبح قبله ثقافية وسياحية)، بدأت القصة في عام 1412هـ (1992م) عندما أصدر حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم تعليماته السامية بإنشاء أكبر جامع في السلطنة، والهدف من إقامة هذا الجامع لا يقتصر على توفير مكان للصلاة والتعبد فحسب بل ليكون مركزا للتفاعل مع روح الإسلام دينا وعلما وحضارة وثقافة. وتم الشروع في بناء عمارة الجامع في عام 1415هـ (1995م) وأنجزت عمارته عام 1422هـ (2001م).

 

"واعلموا أنّ الحضارات لا تقوم إلا إذا توفرت لها المقومات الأساسية وعلى رأسها حب العمل بين الأمة الواحدة؛ فما أحرانا نحن بني الإنسان بالعمل وقرآننا الكريم يقول: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)) من خطبة صلاة الجمعة بجامع السلطان قابوس بنزوى 27/02/1989.

 

 

وفي 2016 بدأت خطة التنمية الخمسية التاسعة (2016- 2020) بعد ارتفاع معدلات النمو في جميع القطاعات، واستخدمت الحكومة إيرادات النفط والغاز بشكل خاص لتحقيق التنمية وتشييد البنية الأساسية، وبناء ركائز اقتصاد وطني قادر على النمو والتفاعل مع التطورات الإقليمية والدولية والاستجابة أيضاً لمتطلبات تحقيق مستوى حياة أفضل للمواطن، وتنويع مصادر الدخل القومي والحد من الاعتماد على عائدات النفط والغاز بقدر الإمكان.

وفي نهاية 2017 حققت السلطنة فائضا مقداره 492 مليونا و500 ألف ريال عماني وفق ما أشارت إليه الإحصائيات المبدئية الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات. وكان الميزان التجاري للسلطنة قد شهد في نهاية العام الماضي 2016 فائضا مقداره مليار و395 مليونًا و300 ألف ريال عماني مثل النفط والغاز من الصادرات السلعية ما قيمته 5 مليارات و840 مليونًا و300 ألف ريال عماني، بينما بلغت قيمة الصادرات غير النفطية مليارين و398 مليونًا و800 ألف ريال عماني.

 

 

"يجب أن نضع نصب أعيننا دائما الأهمية الكبرى لتعزيز قوتنا الذاتية باستمرار وفي كل المجالات؛ بما يمكننا من تذليل الصعاب، والتغلّب على التحديات، وإنجاز مهامنا الوطنية لخير عمان وشعبها الأبيّ"..

من خطاب جلالته في العيد الوطني الخامس عشر 18/11/1985.

ومنذ بداية النهضة المباركة حظي التعليم برعاية خاصة واهتمام كبير من جلالة السلطان الراحل؛ حيث تطورت المسيرة خلال عقود النهضة المباركة، وتظهر الإحصائيات أنّ 634770 طالبًا وطالبةً انتظموا للدراسة في العام الدراسي 2019/2020.

كما شهدت الخدمات الصحية في السلطنة تطورا ملحوظا طوال السنوات الماضية حيث تتكون المنظومة الصحية المنتشرة في كافة ولايات السلطنة من (74) مستشفى منها (49) مستشفى تابعا لوزارة الصحة، و(6) مستشفيات تابعة لجهات حكومية أخرى و(19) مستشفى للقطاع الخاص. وتدير الوزارة أيضاً (206) مراكز ومجمعات صحية، إضافة إلى وجود 60 مركز رعاية صحية أولية حكومية غير تابعة لوزارة الصحة و1105 عيادات ومراكز صحية تشخيصية تابعة للقطاع الخاص. وبلغ عدد الأطباء الاختصاصيين والاستشاريين وأطباء العموم بمؤسسات وزارة الصحة 5875 طبيبا و13700 من الفئات الأخرى المهنية والإدارية و14587 ممرضا وممرضة و323 طبيب أسنان.

 

عقود ممتدة تقارب النصف قرن من العمل المضني في خدمة الوطن، حرص خلالها السلطان قابوس -طيب الله ثراه- على أن يوفر للشعب السعادة والرخاء، والنمو الازدهار، وفي المقابل رد العمانيون الجميل بفيض من الحب الغامر والولاء المطلق والعرفان الذي لا حدود له.

 

"... وستبقى عماننا الأبيّة قوية بتفاني ووفاء أبنائها البررة وتضافر جهودهم في مسيرة الخير والبناء..".

تعليق عبر الفيس بوك