حمد بن سالم العلوي
أعلنت أمريكا احتلال العراق في العام 2003م بعدما سيطرت على منطقة مطار بغداد، وذلك رغم أن أجزاء كثيرة من العراق كانت لا تزال تقاوم الغزو الأمريكي، وظل العراق ناقصَ السيادة رغم الانسحاب الأمريكي عام 2011م، وقد أسبق ذلك الانسحاب بتقييد العراق باتفاقيات كثيرة مع أمريكا، ثم بدأ الرئيس دونالد ترامب التسلل عائداً إلى العراق من جديد، مُستغلاً مسرحية مكافحة الإرهاب، المتمثل في "داعش"؛ حيث حُددت فترة ثلاثين عاماً للقضاء على "داعش" كما كانوا يزعمون، وهنا بُدء بتسمين القواعد الأمريكية التي ظلت في العراق، ومسرحية "داعش" هذه سيتولى الأمريكان أنفسهم توضيح أسرارها لاحقاً، وذلك من خلال كتب ستنشر للقرَّاء، وهو ما جرت عليه العادة من قبل.
إنَّ الشيء المؤكَّد من قبل الرئيس ترامب، هو الطَّمع في ثروات العراق النفطية، والمخزون الهائل من احتياط النفط الذي كان الهدف من قبل الاحتلال وحتى الآن؛ ذلك دون إغفال هدف مهم كذلك، ألا وهو إبعاد الخطر العراقي عن الوجود الإسرائيلي، ولقد أتى الاحتلال الأمريكي مختلفاً عن نهج دول الاستعمار العتيدة، فالاحتلال الأمريكي يريد السيطرة الكاملة على إرادة الشعوب، فظل الأمريكان يتصرفون في العراق بقناعة سكنت عقولهم من بعد الاحتلال، ألا وهي أنَّ العراق أصبح مِلكاً لهم بكافة مقدراته، وأنهم هم يقرر مساره وتوجهه، ولكن استعجالهم بجعل جيشهم الداعشي يحتل البلاد بالنيابة عنهم، فقد كان ردًّا على تعنت أحد رؤساء الوزراء عن طاعتهم التامة، وقد تهاوتْ مُدن العراق بدءاً من الموصل وبسرعة عجيبة، فالأمريكان أنفسهم عندما قرروا غزو العراق، فقد احتاجوا أكثر من 21 يوماً لدخول محافظة البصرة، وطبعاً لا مقارنة بين قوة أمريكا وحلفائها وقوة داعش.
وقد تصدَّى اللواء قاسم سليماني قائد فيلق القدس بتدخله العاجل، وأفسد عليهم احتلال بغداد العاصمة، وأفشل بذلك مرحلة تكوين إسرائيل أخرى، وذلك تحت مسمى "داعش" وبدين يرفع شعارات إسلامية، فكان مقدراً لدولة داعش هذه أن تحقق الأهداف التي عجزت عن تحقيقها دولة إسرائيل الصهيونية، والتي لوث القوميون العرب والمخلصون الوطنيون من مسلمين وغير مسلمين في العالم العربي والإسلامي سمعتها، وجعلوها تمثل عدوًّا واضحاً للشعوب العربية والإسلامية إلى اليوم والغد، وهذا أمرٌ قهر طموح نتنياهو، الذي كان يحلم أن تفتح اتفاقيات السلام الكاذبة للكيان الصهيوني الساحة العربية كاملة، فاكتشف أنه سيظل هو وكيانه مكروها مبغوضا في عقول الشعوب إلى يوم الدين، وإن الخونة من العرب الذين أعلنوا محبتهم لإسرائيل لا يمثلون الأمة.
ولقد أتت الأقدار لتجعل من مطار بغداد نقطة التحول والتحرر، رغم حسن الفأل الذي تعشمه فيه الرئيس ترامب، ففي مطار بغداد حصل النصر الأمريكي على العراق، فترامب الذي يعيش أزمة المحاكمة البرلمانية، والتي أنهكت قواه وكسرت غروره، قد تبدد حلمه بفترة ثانية من حكم أمريكا، فكان يبحث عن مخرج ينسي الأمريكان الصورة القبيحة التي أوجد فيها، فوسوس له شيطانه "نتنياهو" وحبيب قلبه بمَخْرَج طالما كررته إسرائيل عندما ينزنق ساستها في مشكلة انتخابية، فيلجأون إلى مهاجمة الجوار، أو القيام بحملة اغتيالات بين القادة الفلسطينيين أو العرب، فترتفع أرصدتهم الانتخابية وينتعش حب شعبهم لهم، وتفك عقدة النحس الإسرائيلي بالدم العربي، وترامب الذي يرى في نتنياهو قدوته العليا، ظن أنَّ الشعب الأمريكي يهوى الدم العربي أو الإسلامي مثلما يحب شعب إسرائيل ذلك.
إنَّ ترامب الذي ليس له مستشار في الدنيا كلها يثق فيه، كما يثق في نتنياهو، والذي يعتبر كلامه أمرًا نافذًا؛ فقد أشار إليه بالطريقة الإسرائيلية الناجعة، ورشح له هدفاً كبيراً مزدوجاً ألا وهما الفريق قاسم سليماني والقائد أبو مهدي المهندس، فهذان القائدان الكبيران قَتْلُهما سيجعل من الرئيس الأمريكي بطلاً قوميًّا يُخرس الكونجرس الأمريكي لعشرين سنة قادمة، وستفتح له أبواب العالم، وحتى التعسُّر والتردد الذي يحدث أحيانا بين أصدقائه في دول الخليج وتؤخر الهبطة عن موعدها، حتماً ستتغير هذه الحال تماماً معها، وإن إيران ستركع أمامه طالبة عفوه ورضاه، وسيرهب في نفس الوقت روسيا والصين وكوريا الشمالية، فلم يصدق الرجل خبراً، خاصة وأنَّ قاسم سليماني لا يترك لأمريكا فرصة لفرض إرادتها على محور المقاومة والمنطقة، وأنه -أي قاسم سليماني- كان سببا رئيساً في إفشال معظم المخططات الأمريكية والإسرائيلية ومن يقف معهما في مواضع كثيرة.
لكن لم تأت مشورة نتنياهو كما صوَّرها لصديقه، وربما كان نتنياهو يعرف تلك النتيجة، لكنه يريد أمريكا أن تحارب إيران نيابة عن إسرائيل، بعدما عجز عن توريط دول خليجية في ذلك، وقد يكون هو من نصح بالتعريج إلى اليمن لبضعة أيام، وإن النجاح في اليمن سيجعل بعد ذلك إيران هدفا سهلا، لكن حرب اليمن قد خربت عليه كل الحسابات، فأيقن هو وصحبه أن إيران صعب فت عضدها إلا من قبل أمريكا وحدها، والتي تجيد تدمير الأمم وقتل الشعوب والتنكيل بهم بلا رحمة، والعراق شاهد حي على ذلك.
إن إيران اتَّخذت القرار بالانتقام لمقتل قائد فيلق القدس، وإن دم الشهيد قاسم سليماني سيكون أقوى من قاسم سليماني نفسه، وإيران التي أبرزت بعض قوتها في الأشهر الماضية، لا يمكنها السكوت عن دم قادتها وسمعتها وكرامتها، وإيران اليوم التي تتكئ على حلف قوي يضم محور المقاومة وروسيا والصين وحتى كوريا الشمالية، هي غير العراق في زمن صدام حسين، وإن حادثة مطار بغداد أظهرت خطر أمريكان الحقيقي -إن ظلت في المنطقة- وربما طرد أمريكا من ساحة محور المقاومة كان مؤجلاً حتى يتم طرد كل الإرهابيين من سوريا والعراق، لكن هذه الحادثة ستجعل من القرار المؤجل يوضع موضع التنفيذ، وإن أية ردة فعل عنيفة أمريكية ضد إيران قادمة، ستقلب المنطقة رأسا على عقب.
الحقيقة أنَّ السلطنة وحدها في منطقتنا تدرك خطورة هذا الأمر، في حين أن دول أخرى تعذر عليها فهم هذا، لأنها تعرضت إلى أدلجة غريبة، جعلتها تصطفُّ مع العدو الإسرائيلي بلا وعي، وتستبعد تماماً أن يجري شيء على أرضها، ولن تتنبه إلا بعدما يقع الفأس في الرأس، وهذه مصيبة كبرى تظهر أمامها كل المصائب التي اقترفوها من قبل كلعب أطفال، فاللهم جنب المنطقة الشَّر والأشرار وكيد الفجار وعداوة الجار للجار.
اللهم احفظ عُمان وشعبها وسلطانها، واشفيه وعافيه من الأسقام والأمراض.. اللهم إنك مجيب سميع الدعاء.