المسألة الفلسفية في الرؤية المعاصرة

عبدالله العليان

لا شك أن الفلسفة -كنظرة للتأمل والتفكير- برزتْ منذ أقدم العصور، ويقال إنها بدأت في اليونان كانطلاقة فكرية، في الكون والعالم والحياة، ثم توسَّعت وتطوَّرت في مناهجها، وطريقة تعاطيها مع العقل والفكر، مع حاجة البشرية للتأمل في الوجود، وفيما هو جدير بالنظر لتطور رؤى الإنسانية في هذا الحياة من نظرات.

ولا شك أن هذه الفلسفة تعتمد على العقل والنظر العقلي، لذلك اصطدم الفلاسفة مع الكثير من أصحاب الفكر السياسي والفكر الديني، منذ ظهورها في اليونان، لكنها تظل ظاهرة لافتة في التأمل والبحث والنقاش، في كل الميادين، بغض النظر عما تثمر عنه هذه الرؤى الفلسفية من أفكار، التي اتجهت في نظرتها إلى ميادين فكرية عديدة، في مجالات ميتافيزيقية وطبيعية وأخلاقية وسياسية...إلخ، وتعتبر قضية الفلسفة في عصرنا الراهن مجالًا للبحث والرصد، لمسألة التفلسف في راهننا الحالي، ماذا نأخذ منها؟ وماذا ندع؟ ولماذا تراجعت الفلسفة في المجال العربي والإسلامي منذ عدة قرون؟ الكاتب والباحث الموسوعي الأستاذ زكي الميلاد، اهتمَّ منذ عدة عقود، بقضية الفلسفة العربية/الإسلامية، وقد بدأ الأستاذ الميلاد بطرح الفلسفة، ضمن كتابه "محمد إقبال وتجديد الفكر الديني"، وضمن سلسة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي، الذي يصدره مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ثم أصدر دراسته البحثية الجيدة "دراسات في تاريخ الفلسفة الإسلامية"، آخرها كتابه الموسوم "مدخل إلى المسألة الفلسفية.. كيف نواجه معضلة الفلسفة؟" الذي صدر في 2017.

ويرى الأستاذ الميلاد في مقدمة هذا الكتاب الأخير أنَّ: "الحاجة إلى الفلسفة لها علاقة بالتقدم والنهوض بالمجالات كافة، العلم والتربية والثقافة والتنمية والبيئة والصحة والسكان... وغيرها من المجالات الأخرى؛ فكلُّ هذه المجالات تقف وراءها الفلسفة، تُسهم في بلورة الرؤية الكلية والعامة الناظمة لجميع خطوات العمل، والرابطة لجميع المراحل، والكاشفة من وجه آخر عن مدى بعد النظر وسعة الأفق، وخصوبة الخيال، وحيوية الفكر، وهذه الفلسفة تتصل بطرف مع الفلسفة التي هي علم العقل". وفي الفصل الأول من هذا الكتاب، يتحدث زكي الميلاد عن الأزمة في الفكر الفلسفي العربي المعاصر، ويرى أن الكثير من الباحثين العرب، يتحدثون عن أزمة الفكر الفلسفي المعاصر، وهذه الرؤية سمة بارزة لأغلب المهتمين بالفلسفة، وتلك النظرة أصبحت ظاهرة لدى هؤلاء، إلى: "درجة بات من المعروف عند هؤلاء وغيرهم، أن مع كل حديث عن الفكر الفلسفي العربي المعاصر سيكون الحديث عن الأزمة طاغياً، مع هذا العلم عند هؤلاء، مع ذلك نجدهم يتسابقون ويسارعون في الحديث عن هذه الأزمة، التي طالما أسمعوا أنفسهم لها كثيراً، وما زالوا يسمعون ويستمعون لها. ويبدو أنَّ بعض الكتاب باتوا حائرين في طريقة النظر لهذه الأزمة، فنجد أنهم تارة يتحدثون عنها بطريقة ما، وتارة يتحدثون عنها بطريقة مختلفة".

ويشير الأستاذ الميلاد في هذا الفصل إلى الخطاب الفلسفي العربي، ورأي المثقفين والمذاهب الفلسفية المعاصرة في العالم العربي، وأزمة الفلسفة والمجتمع، ومسألة الاستقلال الفلسفي، والرؤية النقدية لبعض المشتغلين بالفلسفة ومنهم د. ناصيف نصار في كتابه "الاستقلال الفلسفي"، فيقول: "في هذا الكتاب حاول نصار رد مختلف المواقف من تاريخ الفلسفة حسب وضعية الفلسفة في الثقافة العربية المعاصرة إلى موقفين: موقف التبعية وموقف الاستقلال، والمنصفون على موقف التبعية في نظره ينقسمون إلى قسمين: قسم تابع لتاريخ الفلسفة الوسيطة، وقسم تابع لتاريخ الفلسفة الغربة المعاصرة. وهؤلاء على اختلاف نزعاتهم يعتبرهم د. نصار أهل اقتباس أكثر من كونهم أهل ابتكار".

ويتطرق الأستاذ الميلاد أيضا إلى الحوارات التي ناقشت مسألة أزمة الفلسفة في الوطن العربي، وإلى سؤال: لماذا لا توجد لدينا لدينا فلاسفة؟ وطرح بعض الآراء في هذا الجانب، وناقش قضية الاجتهاد الفلسفي؛ من خلال حوار دار مع بعض الأكاديميين، في المؤتمر العلمي الدولي حول الفلسفة في الفكر الإسلامي بالعاصمة الأردنية، وكان رأيي -كما يقول الميلاد- في هذا المؤتمر: "أن العبور والانتقال بالفلسفة الإسلامية من النقل إلى الإبداع، لن يكون ممكناً إلا باستعادة ما أسميته الاجتهاد الفلسفي، والذي أعني به إعمال مفهوم الاجتهاد في مجال الفلسفة، وهو مفهوم الذي اقترن بالفقه فأحدث هذه الثروة الفقهية الهائلة في مجال المعارف الإسلامية". وتحدث في فصل آخر، عن الفيلسوف ابن رشد، كوضعية فكرية متميزة، وأصبح هذا العلامة حقلا دراسيًّا، كما يسمى بحقل" الدراسات الرشدية". ويتحدَّث الميلاد عن مكانته بين الديانات السماوية، وتأثيره الفكري والفلسفي لقرون عديدة، وأشار إلى ابن رشد الشارح لفلسفة أرسطو، والمواقف منها، والمفارقات التاريخية لهذه العلاقة، والنقد الموجَّه له من بعض العلماء والمفكرين تجاه نقله لفلسفة أرسطو وتأثره بها. ويرى الأستاذ الميلاد أنَّ محمد عابد الجابري دافع عن ابن رشد، وقلب صورته؛ ففي كتابه "نحن والتراث"، الذي أكد على إسلامية فلسفة ابن رشد ليس في مؤلفاته فحسب، وإنما في شروحاته أيضاً وحسب قوله: "إنَّ هناك فعلاً فلسفة رشدية خاصة وأصيلة داخل شروحه على أرسطو، فلسفة جديرة حقاً بهذا الوصف، وأنه كان بصدد تقريب المنظور الأرسطي إلى المنظور الإسلامي".

وتحدَّث الميلاد أيضاً، عن العلاقة بين فلاسفة المسلمين القدماء وفلاسفة أوروبا المحدثين، ومسألة الأخذ والعطاء بينهما، وأشار إلى قضية مثارة حول اقتباس الفيلسوف "رينيه ديكارت"، من الإمام الغزالي، ما سماه ديكارت بالشك المنهجي، وفق الاصطلاح الشهير "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وأن د. زكي نجيب محمود وبعض الباحثين في الفلسفة تحدثوا عن هذا التطابق، بين ما قاله الإمام الغزالي "أنا أريد إذن أنا موجود قادر" وما قاله ديكارت، والبعض يرى أن ما قاله الغزالي ورينيه مجرد توارد خواطر بينهما، والبعض الآخر يرى من خلال البحث والاستقصاء، أن ما قاله ديكارت مجرد اقتباس منهجي من الغزالي، مع اختلاف العبارات، ويرى الأستاذ زكي الميلاد -الذي اهتم بهذه القضية الفلسفية- في هذا الكتاب أن د. زقزوق: "أثبت بالنصوص القاطعة التطابق الواضح بين المنهج الفلسفي لدى كل من الغزالي وديكارت، وهو المنهج المعروف بالشك المنهجي، التطابق الذي فاجأ الأستاذ المشرف على الرسالة راينهارد لاوت، الذي يعد حسب قول زقزوق، من أشد المعجبين بفلسفة ديكارت، وكان يعلن في محاضراته أن الفلسفة الحقيقية بدأت مع ديكارت"... وللحديث بقية.