ساعة أبي

 

شعر: د. يوسف حطّيني | جامعة الإمارات

 

(1)

كلَّ صباحٍ

أتهجّأ ذاكَ الحُلمَ الهاجعَ في أجفانِ أبي

كطيوفٍ ورديّهْ

أتأمّل ساعتَهُ المخبوءةَ في زمنِ الحسرةِ

وهيَ تثرثرُ في أعماقِ الدُّرْجِ الدّاكنِ

صفحةَ عمرٍ من ذاكرةٍ منسيهْ

تلك عقاربُها تلسعُ قلبَ النّسيانِ

بجمرِ القصصِ المحكيهْ

إذ كان أبي في زمنِ القهوةِ

حبّة هالٍ ذوّبها دفءُ فلسطينَ

بفنجانٍ من عشقِ أُميّهْ

توقظه ساعتُهُ في الفجرِ،

يصلي للرّزّاق، يتمتمُ أدعيةً،

يضطجعُ على وجعِ الأمسِ

وبعضِ الأحلامْ

توقظ أمّي (بابورَ الكازِ) النّائمَ

في حضنِ الأيامْ

تشعلُ صبحَ أبي بالدفءِ

ليشربَ قهوتهُ

ويدفّئ يده الخشناءَ على عجلٍ

من ثلجِ الشّامْ.

 

(2)

كانَ أبي يتنقّلُ مثلَ كتابِ شقاءْ

يبني قصراً لا يسكنُهً

مدرسةً لا يتعلّمُ فيها درسَ الإملاءْ

ساعتُهُ في الورشةِ تدعوهُ

لكي يشربَ كأسَ الشّايِ السّاخنِ

في العاشرةِ صباحاً

أو ينصتَ لأذانِ الظّهر القادمِ،

فيما بعدُ، منَ الأجواءْ

تدعوهُ السّاعةُ لغداءٍ مَلَكيٍّ

في الورشةِ

حين يكونُ البيتُ بعيداً

يكشفُ سرَّ "سَفَرْطَاسٍ"

يفتحُهُ ليُطِلَّ رغيفٌ،

قطعةُ جبنٍ،

زيتونٌ،

وبقايا أكلِ الأمسِ

قد يهربُ في صيفِ الوَرْشَةِ

من حرِّ الشّمسِ

تعزفُ ساعتُهُ الصّفراءُ

قُبَيلَ اللّيلِ

نشيدَ الآهِ بلا وترِ

تحملُهُ ليُضيءَ البيتَ

بعُرْسِ الخبزِ المنتظرِ

يتعشّى وجَعاً.. عَكُّوباً..

وشرائحَ ليمونٍ

تفردُها أمّي فوقَ الخُبَّيْزَةِ

تغلي شاياً بالنّعناعِ

لكي يحلوَ ظلُّ السَّهَرِ

لكنَّ عيوناً مغلقةً تُحزِنُها

يُحزنُها أن تُرجعَ كلَّ مساءٍ

كأسَ الشَّايِ الباردِ مَلآنا

أمّا عيناه المطفأتانِ

فبينهما سرٌّ مغلقْ

قد يسرعُ نحوَ الحُلمِ إلى الجَرْمَقْ

قد يسرحُ في ذاكرةِ الدَّمعةِ أحيانا

قد تأخذُهُ الغفوةُ

في غيمةِ حلمٍ وارفةٍ

ورديّهْ

قد يُصْبحُ، في غفوتهِ، شَطّاً

لبحيرةِ طَبريّه

يحدوهُ الأملُ النّازفُ في تعبٍ وسقامْ

تطردُنا أمّي كي تحرسَ تلكَ الغفوةَ

وينامْ.

 

(2)

يذكرهُ اليرموكُ

فكلّ مدارسِهِ تتذكّرُ ذاكَ المِعْماريَّ

الطاعنَ في التّعَبِ

ذاكَ البنّاءَ العاشقَ

تذكرُهُ مدرسةُ القسطلِ والمنصورةِ،

رأسِ العينِ، ومدرسةُ النقبِ

كنتُ أشمُّ بجدرانِ القسطلِ

عرَقاً يشبهُ ملحَ الأرضِ النّازفِ

ذاكَ أبي

قد يتركُ ورشتَهُ

كي يركضَ للبيتِ إذا داهَمَه حدسٌ

أو ناداهُ الشوقُ لأحدِ الأبناءْ

قد يتركها.. دونَ النَّظرِ إلى السّاعةِ

حينَ تمرُّ جنازاتُ الشهداءْ

يذكرُهُ الحجرُ الأسودُ

ساعتُهُ تنزفُ سأماً في السّتينْ

حينَ فتيلُ الهمّةِ يخبو

يفتح دكاناً في الحارةِ،

ليستْ دكاناً

بل ثمَّةَ جدرانُ حنينْ

تختزنُ الدّفْءَ

وحلوى الأطفالِ

وتمسحُ حزنَ الجيرانِ ببسمتِهِ

فيضيءُ جبينْ

ويمرّ الوجعُ القاهرُ

يطفو فوقَ سماءِ العمرِ

كبقعةِ زيتْ

يمنعُهُ المرضُ اللاهثُ

أن يخرجَ للشّارعِ

حين تطلُّ الأعوامُ الغَرقى في ساعتِه

لا تنفَعُ "ليتْ"

تخبرني السّاعةُ أنَّ عيونَ الرّحمةِ

تكلؤه في البيتْ

أمّي ترقدُ قربَ سريرِ الخوفِ؛

لترفوَ ما مزّقه ليلُ الأيّامِ الصّعبهْ

أختي تسندُهُ بيديها،

يَشرقُ بالدَّمعةِ، وأنا يذبحني

سيفُ الغربَهْ

وأخي يخبرني بعدَ صقيعِ البَيْنِ:

تعالْ

ذهبَ الغالي في رقدتِهِ الأبديّةِ

وانتحبَ الموّالْ.

 

 (3)

لو أعرفُ أيتّها السّاعةُ

أيَّ زمانٍ تنتظرينَ؛

لأَدفِنَ حزناً

يتنزّلُ مثلَ غبارِ الدّهرِ

على عسَلِ الذّكرى

لو أعرفُ كيفَ أزيلُ صقيعَ المأتمِ

عن فرحِ البشرى.

 

(4)

ما زلتُ أحثُّ خُطا قلبي

نحوَ المجهولِ

فتدعوني تلكَ السَّاعةُ

في زمن الردّهْ

أن أحملها عَلَّ الماضي

ينجزُ وعدَهْ

هي في شغفٍ

تلمس نبضَ عروقي هاتِفَةً:

لا توقف زمنَ الآباءِ الحالمِ

واسقِ الوردهْ

ساعتُهُ، وهْيَ تعانقُ نبْضي،

تحملُني في ثقةٍ

نحوَ الأطيافِ الورديّهْ

تأخذُني في غيمةِ حلمٍ وارفةٍ

كي أصبحَ شَطّاً لبحيرة طبريّهْ

 

تعليق عبر الفيس بوك