2020.. عام بلا فساد

حمود بن علي الطوقي

أذكر أنني في مطلع العام 2010، كتبت سلسلة مقالات عن الفساد، ووضعت نفس العنوان الذي يحمل عنوان هذا المقال، وصنَّفت آنداك ألوان الفساد حسب اجتهادي، وذكرت من ألوان الفساد: الفساد الأبيض، والأحمر، والأخضر، والوردي، وأيضا الفساد الأسود.. واختلفتْ ألوان الفساد، ولكن ظل المصطلح واحدًا هو الفساد، وعلى مدار السنوات الماضية شمَّرت الاقلام الوطنية وكتبت عن آفة الفساد وتغلغُل هذه الآفة التي أصبحت ظاهرة يجب على الجميع العمل معا للتصدي لكل عمل يقود للفساد.

نعُود ونكتب من جديد ونحن نستقبل الألفية الجديدة، ونضع تساؤلا مشروعا: لماذا يستمر الفساد؟ وما هي الحلول التي يجب أن تطرح لتكون سببا في مكافحة الفساد؟ وأين يكمُن الفساد؟ وهل الفساد مرض أو حالة نفسية؟ وهل هناك حاجة لتدوير الوظيفة الحكومية وتشهير من يقعون متلبسين بممارستهم للفساد؟ ويا تُرى، ما هو حجم القضايا التي تحال إلى الجهات القضائية متعلقة بالفساد؟! وكم تصل مدة الأحكام التي تصدر في حق المتورطين؟

وإذا كانت هناك محاكمات، فلماذا تتسع الفجوة ونسمع أحاديث وروايات تشير أصابع الاتهام إلى تعمُّد البعض في ممارسة الفساد؟! إذا طلبنا مثلا من الجهات القضائية أن تنشر بشكل دوري القضايا المحالة إليها بسبب تورط أصحابها بالفساد، والحالة هذه أيضا تعمَّم على كل الجهات الحكومية بأن تنشر في مواقعها عن تورط الموظف في قضية لها علاقة بالفساد.. فلا شك أن النتائج المنشورة ستكون صادمة.

إذا رجعنا إلى المحاكمات العلنية والأحكام الصارمة التي طبقت على البعض، نتيجة تورطهم في قضايا الفساد، وتم الإعلان عنها، سنجد أنها رغم قساوتها لم تكن رادعة، وظلت المشكلة وتوسعت رقعتها، فهل هناك يا ترى علاقة سلوكيًّا ونفسيًّا تصاحب الفاسد في حياته، وتتحول مع مرور الوقت إلى مرض عضال يجب استئصاله؟!

لمعرفة هذه العلاقة بين الفساد وسلوك الإنسان، وجهت سؤالا لأخي وصديقي الدكتور حمد بن ناصر السناوي، وهو استشاري أول الطب السلوكي بمستشفى جامعة السلطان قابوس، عن السمات الشخصيه التي قد تدفع الشخص إلى ممارسة الفساد؟ وقال لي: يشير علماء النفس إلى بعض السمات الشخصية التي قد تدفع الشخص إلى ممارساة الفساد؛ ومن هذه السمات: ضعف التعاطف؛ وهذا يعني أن تجعل مصلحتك أمام الآخرين، وألا تبدي أيَّ اهتمام عن المعاناه أو العواقب السلبية الأخرى التي قد تقع على غيرك؛ فالشخص الذي يسعى لترقية موظف أو منحه علاوات استثنائية دون وجه حق، لا يتعاطف مع الموظفين الآخرين الأكثر استحقاقا للترقية والعلاوات.. ببساطة، فإن قلة التعاطف نوع من غياب الضمير.

السمة الثانية هي التركيز على الذات؛ فالأفراد المفسدون يقدمون احتياجاتهم الخاصة على احتياجات الآخرين، وأيضا التلاعب؛ حيث يتميز الأفراد المفسدون بالقدرة على خادع الآخرين، بل أيضا خداع أنفسهم ليستمروا في ممارسة الفساد دون شعور بتأنيب الضمير، تارة تحت شعار "الغاية تبرر الوسيلة"، وتارة أخرى "الكل يفعل ذلك بطريقة أو أخرى".

السمة الثالثة: الاستحقاق؛ حيث يعتقدُ الفرد المفسد أنه يستحق النجاح أو الحصول على كل ما يريد أكثر من الآخرين، وأنه يستحق معاملة خاصة، ويقوم بإلقاء اللوم على الآخرين، وتجنب تحمل مسؤولية أفعاله.

ومن سمات الفساد أيضا: الجشع؛ ففي دراستها البحثية عن فساد القطاع العام، تشير الباحثة النفسية جروبلر إلى أنَّ البشر جشعون بشكل فطري. قد يتمكَّن البعض من احتواء الرغبة في الثراء السريع والإشباع الفوري، بينما لا يتمكن الآخرون من ذلك.. فالأشخاص الذين يشعرون بالحاجة لتجميع الثروة يغتنمون أي فرصة للقيام بذلك.

وتُشير الدراسات الأخرى إلى دور التربية والقدوة في احتمالية قيام الفرد بالفساد؛ فكلٌّ منا يبدأ بتكوين أفكاره وقناعاته عن الأشخاص من حوله عن طريق التعلم المباشر أو غير المباشر من الأسرة ومن ثم المجتمع، فالفرد الذي ينشأ في بيئة مشجعة على الفساد يتعلم أنَّ ذلك جزء طبيعي من الحياه، فيكتسب ذلك السلوك من أيامه الأولى دون الشعور بالتأنيب.

قرأت وأنا اكتب هذا المقال عن قضية الفساد، كيف تمكَّن قاضٍ إيطالي ﺍﺳﻤﻪ ﺃﻧﻄﻮﻧﻴﻮ ﺩﻱ ﺑﻴﻴﺘﺮﻭ من تبنِّى مشروع مُحاربة ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ، عندما ﺍﻛﺘﺸﻒ ﺃﺛﻨﺎﺀ أﺣﺪ ﺍﻟﺘﺤﻘﻴﻘﺎﺕ ﺗﻮﺭُّﻁ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﻴﻦ ﻓﻲ ﻗﻀﺎﻳﺎ ﺭﺷﻮﺓ.. ﻭﺑﻌﺪ ﺗﻮﺳﻴﻊ ﺍﻟﺘﺤﻘﻴﻖ، ﻭﺟﺪ ﺃﻧﻬﺎ ﺷﺒﻜﺔ ﺿﺨﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﻯ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ، ﻣﺘﻮﺭﻁ ﻓﻴﻬﺎ ﺷﺨﺼﻴﺎﺕ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺍﻟﻮﻇﺎﺋﻒ ﻭﺍﻟﻤﺴﺘﻮﻳﺎﺕ، ﻭﺯﺭﺍﺀ، ﻭﻣﺪيرين ﺷﺮﻃﺔ، مدنيين، ﻭﻋﺴﻜﺮيين، وﺩﺒﻠﻮﻣﺎسيين، وﺭﺟﺎﻝ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﻭﺯﻭﺟﺎﺗﻬﻢ.

ﺍﺗﺨﺬ ﺩﻱ ﺑﻴﻴﺘﺮﻭ ﻗﺮﺍﺭﺍ ﺃﻋﺘُﺒﺮ ﺣﻴﻨﻬﺎ "ﺍﻧﺘﺤﺎﺭﻳﺎ" ﺑﺘﻮﻗﻴﻒ ﻛﻞ ﺍﻟﻤﺘﻮﺭﻃﻴﻦ ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻨﺼﺒﻬﻢ، ﺷﻤﻠﺖ ﺍﻻﻋﺘﻘﺎﻻﺕ حوالي 5000 ﺷﺨﺺ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ 1000 ﻣﻦ ﺭﺟﺎﻝ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ. أطلق وقتها ﺩﻱ ﺑﻴﻴﺘﺮﻭ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ "ﺍﻷﻳﺎﺩﻱ ﺍﻟﻨﻈﻴﻔﺔ"، ﻭﺻُﺪِﻡ ﺍلإيطاليون آنذاك ﻟﺤﺠﻢ ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ ﻭﺧﺮﺟﻮﺍ ﻓﻲ ﻣﻈﺎﻫﺮﺍﺕ ﺗﺪﻋﻢ ﺩﻱ ﺑﻴﻴﺘﺮﻭ ﻭﺗﻌﺘﺒﺮﻩ ﺑﻄﻼ ﻗﻮﻣﻴﺎ، ﻭﺃﺻﺒﺢ ﺍﺳﻤﻪ ﻳﻐﻨَّﻰ ﻓﻲ ﻣﻼﻋﺐ ﺍﻟﻜﺮﺓ ﻣﻊ ﺷﻌﺎﺭ "ﺩﻱ ﺑﻴﻴﺘﺮﻭ ﺟﻌﻠﺘﻨﺎ ﻧﺤﻠﻢ".

ﺃﺻﺒﺢ بعدها هذا ﺍﻟﻘﺎﺿﻲ الشاب ﺃﺳﻄﻮﺭﺓ، ﻭﻟﻢ ﻳﻔﻬﻢ ﺍﻟﻤﺤﻠﻠﻮﻥ ﻛﻴﻒ ﺗﺠﺮﺃ ﻭﻓﻌﻠﻬﺎ، ﺣﻴﻦ ﺳُﺌِﻞ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﻛﻴﻒ ﻗﺎﻡ ﺑﺘﻠﻚ "ﺍﻟﻤﻌﺠﺰﺓ"، ﻭ ﺫﻟﻚ "ﺍﻟﺠﻨﻮﻥ"؟ ﺃﺟﺎﺏ ﺃﻧﻪ ﺍﺗﺨﺬ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭ ﻭﻫﻮ ﻳﻌﻠﻢ ﺃﻧﻪ ﻗﺪ ﻳﺪﻓﻊ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺛﻤﻨﺎ ﻟﺬﻟﻚ، ﻭﺃﻧﻪ ﺍﺟﺘﻤﻊ ﺑﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﺷﺒﺎﺏ ﻣﻦ ﻧﺨﺒﺔ ﺍﻟﺸﺮﻃﺔ، ﻭﺃﻓﻬﻤﻬﻢ ﺃﻥ ﻣﺼﻴﺮ ﺍﻟﺒﻠﺪ ﺑﺄﻳﺪﻳﻬﻢ، ﻭﺃﻧﻪ ﻻ ﻣﺠﺎﻝ ﻟﻠﺨﻮﻑ، ﻭﺑﺪأﻭﺍ ﻋﻤﻠﻴﺎﺕ ﺍﺧﺘﺮﺍﻕ ﻭﺍﺳﻌﺔ ﻟﺸﺒﻜﺎﺕ ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ، ﻓﻜﺮﺗﻪ ﺃﻥ ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ ﻳﺪﻣﺮ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺍﺧﻞ ﻟﺬﻟﻚ ﻳﺠﺐ ﺗﺪﻣﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺩﺍﺧﻠﻪ.

أسوق لكم هذه القصة لنفهم حجم هذه المشكلة، والتي تتواصل كسلسلة مُمتدة من الأزمان الساحقة، ولكن في حالة وجود رغبة صادقة، يمكننا أن نقضي على المشكلة.. لهذا؛ ونحن نستقبل عامًا جديدًا نريد أن نستنشق هواء نقيا بعيدا عن شوائب الفساد.. فهل سنقدر؟