حاتم الطائي
◄ مرحلة التحفيز والتنويع الاقتصادي البداية الحقيقية لتطبيق "عمان 2040"
◄ البيئة التشريعية مواتية لجذب الاستثمارات وتمكين القطاع الخاص وتعزيز الأداء الاقتصادي
◄ التخصيص أحد أركان إعادة هيكلة الاقتصاد لتطوير الخدمات للمواطن
الأرقام التي أفصحت عنها الميزانية العامة للدولة لعام 2020، مُبشرة وترسم صورة إيجابية لما يُمكن أن نسميه مرحلة التحفيز والتنويع الاقتصادي، إذ تُظهر البيانات نموًا في الإنفاق ليصل إلى 13.2 مليار ريال تتوزع على جميع قطاعات التنمية، وتقديرًا عقلانيًا للإيرادات عند مستوى 10.7 مليار ريال، استنادًا إلى سعر بيع برميل النفط في حدود 58 دولارًا مع إنتاج 970 ألف برميل يوميًا.
مرحلة التحفيز والتنويع الاقتصادي التي نتحدث عنها، تؤكدها شواهد عدة، لعل في مُقدمتها أنَّ العام الجاري هو السنة التمهيدية لتطبيق الرؤية المُستقبلية "عُمان 2040"، وهي الرؤية التي ترتكز في أساسها على قاعدة التنويع الاقتصادي، من خلال تكثيف الاهتمام بعددٍ من القطاعات الواعدة. ومن أجل تحقيق انطلاقة حقيقية وفاعلة لهذا التنويع، وأن يتجاوز مرحلة التنظير في مراحل سابقة، يتعين اتخاذ إجراءات تحفيزية تدعم جهود تنفيذ هذا التنويع، إذ إنَّ المعني في المقام الأول بتحقيق التنويع الاقتصادي في مصادر الدخل هو القطاع الخاص، الذي طالت فترة انتظار قيادته لجهود التنويع.
والقطاع الخاص في السلطنة لم يعُد فقط مُطالبًا بالإسهام في تلك الجهود، بل عليه أن يُبادر ويطرح الحلول قبل أن تُطلب منه، فمنذ انفتاح السلطنة على الاقتصاد العالمي والانخراط في منظومة التجارة الحُرَّة، كان من المفترض أن يتحول القطاع الخاص ليكون المحرك الرئيسي لعملية التنمية في البلاد، إلا أنَّ تحديات عدة واجهت ذلك الهدف، ومن بين هذه التحديات مسؤولية القطاع الخاص، الذي نأى بنفسه عن أن يكون مُغامراً، وأن يتحلى بالقدرة والجرأة على تنفيذ مشروعات عملاقة تعود بالنفع عليه وعلى اقتصادنا الوطني. لكن في الوقت نفسه لا يجب إغفال التحديات الأخرى التي مثَّلت عائقاً حقيقياً أمام نمو هذا القطاع، في مُقدمتها الجانب التشريعي، إذ لم تسمح البنية التشريعية للدولة بإفساح المجال أمام القطاع الخاص لكي يضع يدًا في مسيرة التنمية بالصورة المأمولة، وفي المُقابل لم يكن القطاع الخاص سوى مقاول كبير لمشروعات الدولة، وندُرت المشاريع الذاتية النابعة من منظومة القطاع الخاص، وتمركزت بصورة أو أخرى في القطاع العقاري أو الترفيهي.
بيد أنَّ العائق التشريعي قد أزيل تمامًا، بعد حزمة القوانين الاقتصادية التي صدرت خلال الأشهر الأخيرة من 2019، وكانت بمثابة تمهيد للبيئة التشريعية المرتبطة باقتصادنا الوطني، لكي ينطلق نحو آفاق أرحب ويُحلِّق بأجنحةٍ قويةٍ في فضاء الاستثمارات والنمو، فكان قانون استثمار رأس المال الأجنبي أحد أهم القوانين التي أصدرها المُشرِّع العُماني خلال عقود النهضة المُباركة، وهو القانون الذي يُقدِّم تسهيلات غير مسبوقة للمستثمرين دون الإخلال بحق الدولة في مُمارسة مهامها الرقابية أو التنفيذية. إلا أنَّ المُؤكد في الوقت الحالي أنَّ لدينا قانون استثمار أجنبي مُتميزا يُوفر الكثير من الضمانات للمُستثمر وفي الوقت نفسه يُتيح الفرصة لرأس المال الوطني أن يخوض مُنافسة شريفة معه، وفي النهاية المُستفيد الأكبر هي مسيرة التنمية والتطوير في البلاد.
حزمة القوانين التي صدرت في الفترة الأخيرة تضمنت أيضًا قوانين التخصيص، والإفلاس، والشركات، والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وكل هذه التشريعات لا تستهدف فقط جذب الاستثمارات، وإنما أيضًا إعادة هيكلة المنظومة الاقتصادية في بلادنا، إذ لا يكفي فقط أن نحث القطاع الخاص على الإسهام في التنمية وفق المنظومة الاقتصادية التي نسير عليها منذ عقود مضت، فالعالم تغيَّر من حولنا وهذا ما أدركه المُشرِّع العُماني، وما انتبهت إليه مؤسسات الدولة المعنية بملفات الاقتصاد والاستثمار.
ومن هنا نقول إنَّ إعادة الهيكلة تستلزم في الوقت نفسه طرح البدائل التمويلية للقطاع الخاص الذي نأمل منه الكثير في ظل مواتاة البيئة التشريعية لجميع المتطلبات، فمن شأن إيجاد بدائل تمويلية لمشاريع القطاع الخاص- لاسيما العملاقة منها- فبدلاً من الاقتراض من الخارج بفائدة أقل من الداخل، نقترح إنشاء بنك الاستثمار العُماني وتكون مهمته دعم المشاريع العملاقة التي يُنفذها القطاع الخاص، سواء كان وطنياً أم أجنبيًا، وهذه المؤسسة المصرفية الوطنية ستعمل على توفير التمويل الضخم اللازم، بمعدل فائدة أقل مما هو عليه في القروض المتوسطة والقصيرة الآجال، مع تسهيلات مُتنوعة في السداد، وأهمية هذا البنك تتمثل في سرعة البت في طلب القروض مع اتخاذ ما يلزم من ضمانات وفق أعلى المعايير المصرفية، على أن يتم تمويله من خلال مسارين متوازيين؛ الأول: استقطاب المؤسسات التمويلية العالمية بجانب الصناديق السيادية للدولة، وكلاهما يستحوذان على ما يزيد عن 50% من أسهم الصندوق، ومن ثمَّ يتم طرح النسبة المُتبقية للاكتتاب العام من خلال سوق مسقط للأوراق المالية. أما المسار الثاني فيتمثل في ملكية الصندوق بالكامل للقطاع الخاص، مع إمكانية طرح نسب مُحددة في سوق المال. وكلا المسارين يُسهمان في تحقيق جملة من الأهداف الاقتصادية، أولاً: سيعمل الصندوق على تمويل المشاريع الكبيرة التي ستوفر العديد من فرص العمل وتحقق انتعاشاً اقتصاديًا في وقت يُحذر فيه الخبراء حول العالم من مرحلة ركود قد يطول أمدها، إلى جانب تشغيل قطاعات اقتصادية مُؤثرة. ثانياً: سيُسهم الصندوق في تعميق سوق مسقط للأوراق المالية، من خلال زيادة القيمة السوقية وجذب أنظار المستثمرين، ومن ثمَّ تحقيق عوائد ربحية للمُساهمين، وكل ذلك بدوره سيُنعش الأداء الاقتصادي العام، ويُعزز من قوة الاستهلاك الذي بات يُمثل أحد أهم أركان النمو في الاقتصادات حول العالم.
وإلى جانب الاستفادة من البيئة التشريعية المُواتية، يتعين أيضاً اتخاذ مزيد من القرارات التي تضمن الإسراع في إجراءات الاستثمار، فلا يكفي أن تكون التشريعات حديثة أو أنَّها مواكبة للمُتغيرات، في حين أنَّ الجهات المعنية بتخليص الإجراءات بطيئة في الفعل وحتى رد الفعل. نقطة أخرى يجب على كل الأطراف الانتباه لها، وهي ضرورة وحتمية تكاتف الجهود بين الجميع، والجميع هنا تعني الحكومة والقطاع الخاص والمواطن الفرد، إذ يجب أن يكون شغلنا الشاغل خدمة هذا الهدف وتحقيق التضافر في الجهود.
وارتباطاً بقضية الاستثمار، تأتي مسألة التخصيص التي أثير حولها الكثير من اللغط وعدم المعرفة الحقيقية بهذا التوجه، فالتخصيص في حد ذاته أداة اقتصادية داعمة للتنمية، ولا يوجد ما يُبرر الخوف منها، متى ما توافرت لها الأسس والمعايير اللازمة، وفي مُقدمتها عدم المساس بأسعار الخدمات المُقدمة للمواطن، والحق أنَّ هذا الأمر لم يغب عن ذهن المُشرِّع، عندما سنَّ قانون التخصيص. وخلال العام الجاري، نتوقع طرح المزيد من مشاريع التخصيص التي ستعود بفائدة كبيرة على اقتصادنا، وخاصة عندما يتم طرح شركات حكومية فاعلة في المنظومة الاقتصادية. لكننا نأمل في الوقت نفسه انتهاج الشفافية والوضوح مع الرأي العام والمُواطن، في ظل حملات تشويه مُتعمدة لكل قرارٍ اقتصادي نافع للوطن ويصب في مصلحة المواطن، وفي ظل هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على تشكيل وعي الرأي العام، والتي للأسف تتعمد التركيز على السلبيات والتي تكون محدودة للغاية، وفي المُقابل إغفال الإيجابيات الهائلة.
وفي إطار الحديث عن الشفافية والحوكمة، نقترح إنشاء جهة معنية بمُراقبة تنفيذ مؤسسات الدولة لرؤية عُمان 2040، بما يضمن تحقيق نتائج أكثر تأثيراً اقتصاديًا واجتماعيًا، فنحن لا نزال نُعاني من غياب التنفيذ الكامل للخُطط والبرامج التنموية. ولنا في نجاح وحدة الدعم والتنفيذ مثال على نجاعة فكرة إنشاء جهة تنفيذية للرؤى والخطط الطويلة الأجل، من أجل تذليل التحديات وإزالة الصعوبات التي تعترض تطبيقها.
إنَّ عملية إعادة هيكلة الاقتصاد التي بدأت مؤخرا، لتحفز على التفاؤل بدور أعمق للقطاع الخاص في التنمية، وفق رؤية جديدة تستهدف تحقيق التنويع الاقتصادي والنهوض بمعدلات النمو وزيادة إسهامات القطاعات المُختلفة في الناتج المحلي، وتوفير الوظائف لشبابنا، ومن ثمَّ تحقيق النهضة الاقتصادية الكبرى في العقد الثالث من الألفية الثانية، والتي ستستفيد منها الأجيال القادمة بإذن الله تعالى.