التمكين والتيسير طريق السلام النفسي والجمعي

 

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

 

لا تبرأ نسمة، ولا تخلق نطفة، إلا كان معدا لها من عالم التمكين في الحياة، مثل ما أعد لها من عالم الخلق والإيجاد؛ فلا توجد خلقة هباء، إنما الخلق بعلم وحكمة؛ وكما قال أينشتين في بعض عباراته وهو يحاول إيجاد لغز خلق الكون "إنَّ الإله لا يلعب بالنرد"، وقد رد عليه أحد غرمائه قائلا "ولكنك لا تستطيع أن تقول للإله كيف يرمي نرده".. أي أن الأمر إن يكن بعلم وحكمة، فلا يعلم مدى هذه الحكمة إلا هو، ولا يحيط بهذا الخلق علما وقدرة إلاه؛ وهو مصداق لقول الله في قرآنه الكريم "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ".

وقد أوتيت كل نفس هداها الذي يحدوها إلى هذا التمكين ويسر لها ويُسِّرت له، هذا الهدى الفطري الذي يأخذ بزمامها من بداية التكوين في مراحل الخلق (النطفة ، والعلقة، و....) إلى مرحلة الإيجاد التي يبدأ فيها بلا يد تبطش ولا سن تقطع، ثم يهدى إلى حفظ قوامه وروحه، يأخذ ما يصلح، ويدفع ما يضر، وما تزال يد العناية تحوطه من بين يديه ومن خلفه، حتى يعي أمر نفسه، ثم تسدي له هداية الصلاح النفسي والاجتماعي.. وهو التمكين الذي نحن بصدده.

هذا التمكين هو عين الوجود، وهو الذي تسوق به يد القدرة حظ الإنسان إلى قدره، وتيسره به لما يسر له، وانفعال الإنسان مع التمكين هو تناغمه مع الوحدة الكونية وانطلاقه مع مفرداتها لا يشذ عن ما مكن فيه، وقد أعطي من إمكانات الخلق والتيسير ما يدفعه إلى حظه من الحياة، وكلما استطاع الإنسان أن يسعى سعيه نحو منظومة قدره التي خلق من أجلها كان أكثر اتزانا وأشد ثباتا وانفعالا مع الكون، وكلما حاول الإنسان الشطط والخروج، أو الانفلات عن هذا النظام الكوني كلما كان أكثر شقاء، وأشد عنتا.

وهنا يثار التساؤل كيف يعرف الإنسان منظومة قدره، وحظه من الحياة وقد حجب هذا بحجاب الغيب، ولو كشف لنا ما في الغيب من حظنا ما لاقينا ما نراه ونلقاه من الشقاء والعنت، لكن حكمة الخلق الأولى اقتضت أن يكون الإلهام الوجداني، والفطرة السوية هما الهادي لحقيقة هذا الحظ، وكنه هذا التمكين، نجد هذا جليا في قوله "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)" (سورة الشمس).

إن الإنسان ليتحسس ذاته ويعرف موقعه من الحياة من خلال هذا الإلهام، كما يعرف طريق الرشد والغي، ويهتدي من خلال ذلك إلى العمل الذي يسر له، وكلما اختار طريقا من (الفجورأو التقوى) فتح له من سبل هذا الطريق ما يمكن له في ما يتأتى منه؛ يختار الإنسان طريقا، ثم يأخذه الطريق إلى قدره، وهذا الطريق إن كان من أبواب الخير أو الشر فلا يسد دونه ولا يدفعه"فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)"(سورة الليل).

وقد يشقى الإنسان في دهره حين يخرج عن طور تمكينه الذي أعد له، ويشذ عن صراط الفطرة الصحيح، فيعمد إلى تغيير خلق الله، ويطلب من الكون أن يجعله في غير ما جعل له، ويتمرد على عطاء الربوبية الذي جعل له الخلق والإيجاد والتيسير، فينكر نعم الله التي تحيط به ، تغمره في ليله ونهاره، ثم يشقى نفسه في الحياة بطلب ما ليس له، وتكلف غير ما مكن فيه فيخرج من ضيق إلى ضيق ، ومن كدر إلى كدر.

وقد ينحط الإنسان كذلك عن همته التي مكنه الله فيها، وقد جعل له من كرامة الخلق وفتوح الذكر وإسباغ النعم ما يرفع به مقامه، ويعلي به شأنه، ويمتاز به عن سائر الخلق فيخلد إلى الأرض، ويحاكي البهائم في ضلالها بل يكون أشد منها غفلة، بشدة إعراضه.

ولقد ضرب القرآن مثلا لهذين النموذجين من البشر، وما بينهما الصنف الثالث الذي وعى بعقله وقلبه ما مكنه الله فيه، وانسجمت نفسه مع نواميس الكون.

فضرب مثلا لمن شقي بطلب مالم يجعل الله فيه تمكينا، ومن علا واستعلى حتى بارز الحق تعالى في ربوبيته وألوهيته كذبا وزورا، فمن قائل "ماعلمت لكم من إله غيري"، ومن قائل "إنما أوتيته على علم عندي" ، وقائل بعد أن ضرب المثل"من يحيي العظام وهي رميم" ، وقد جعل عاقبة كل منهم الهلاك بعد أن جحد نعمة ربه، وتعالى على ما مكنه الله فيه.

ثم ضرب مثلا لمن انحط عما مُكِّن فيه من العلم والهداية فقال: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)"ا(سورة لأعراف).

وقد ذكر الإمام بن عطاء الله مثلا قريبا من هذا وذاك ، فقال "إرادتك التجريد مع جعل الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية ، وإرادتك الأسباب مع جعل الله إياك في التجريد ، انحطاط عن الهمة العلية".

ثم ضرب القرآن مثلا لمن أخذ بما مكن فيه، واستقبل نعمة الله عليه بطيب نفسه، ورضا قلب، فجعل الله له بها شأنا وأمرا، فقال "ياموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين"، وقال: "يايحي خذ الكتاب بقوة "، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم "فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين".

وهكذا.. فكل ميسر لما خُلق له، ومن أخذ بحظه من التمكين كما أريد له فهو في سعة من التوفيق والتيسير، ومن خرج عن إرادة التمكين فلن ينال منها إلا ما كتب له، وقد اختار شقوة الأولين والآخرين.

تعليق عبر الفيس بوك