الوجودية بين "غثيان" سارتر و"شحّاذ" نجيب محفوظ (2-3)

...
...
...
...

 

أ.د. يوسف حطّيني| أكاديمي وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

 

رابعاً ـ الزمن عند الشخصية الوجودية:

في النظرة إلى الزمن نلمس عدم التفات الوجوديين إلى أزمنة تسبقهم وأخرى تلحقهم. ومثلما شاهدنا روكتان في سياق سابق نادماً على زمن أمضاه في الهند الصينية، فإننا نجد الحمزاوي غير حافل بماضي وردة، وغير مهتم بمعرفة أي شيء عنه؛ لأنّ المعولّ عليه في عرفهما، ليس الماضي الذي لا قيمة له، ولا المستقبل المجهول، بل الحاضر الذي ربما يمتد لذكرى قريبة ما تزال تفاصيلها طازجة.

 

في الورقة الأولى التي يعنونها روكتان بـ "ورقة بلا تاريخ"، يؤكّد على اللحظة الحاضرة من خلال تدوين المشاهدات بأدقّ دقائقها، ويشير إلى أنه ينبغي "تجنّب إهمال الفروق والدقائق والأمور الصغيرة، حتى ولو كانت تبدو لا قيمة لها(1)"، إنها اللحظة الحاضرة التي تبقى هي الأهم، لأنها الأكثر حضوراً من الماضي والمستقبل كليهما. يعرف روكتان أن الوضع سيئ جداً، وأنّ (تلك اللحظة) التي يعيشها في المقهى، وتلك القذارة التي تكتنفه، وذلك الغثيان الذي يشعر به، أرسخ عنده من أي زمن آخر(2).

 

ويؤمن بأنه يجب أن يدون اللحظة التي سيتحدث فيها عن أودولف، حتى وإن كانت تعود عليه بشعور الغثيان. ها هو ذا يتحدث عن أودولف: "كان قميصه القطني يبرز بفرح فوق جدار بلون الشوكولا. إن هذا أيضاً يعود بشعور الغثيان، أو بالأحرى الغثيان نفسه. إن الغثيان ليس فيَّ، فأنا أحسه هناك على الجدار، على الرافعتين، حولي في  كل مكان(3)".

 

إن إيمان أنطون روكتان باللحظة الحاضرة يتجلّى حتى في مراقبة عاشقين لا يستعجلان اللحظات الحميمة، فما يزال أمامهما ثلاثون عاماً، "وليسا في ذلك بمخطئين. وبعد أن يناما معاً يجب أن يجدا شيئاً آخر، ليحجبا عبثية كينونتهما الهائلة. ومع ذلك.. أمن الضروري حتماً أن يكذب أحدهما على الآخر(4)". ولأنّ الماضي لم يكن يساوي شيئاً ذا بال؛ فقد أكّد البطل أنّ "الأحاسيس العجيبة التي راودتني في الأسبوع الماضي تبدو لي اليوم مضحكة جداً(5)"، ويدو المستقبل أكثر شحوباً من خلال تجلياته، في هيئة عجوز تقترب من زاوية الشارع في زمن غير زمنها:

  • "إنني (أرى) المستقبل، إنه هناك، منتصب في الشارع، لا يكاد يزيد شحوباً عن الحاضر. ما حاجته أن يتحقق أي جديد يمنحه ذلك. إن العجوز تبتعد وهي تعرج(6)".
  • "إن هذا هو الزمن، الزمن عارياً تماماً، إنه يأتي متمهلاً للوجود، إنه يغري بالانتظار. حتى إذا أقبل يحسّ المرء بالاشمئزاز لأنه يلاحظ أن وقتاً طويلاً قد انقضى على وجوده هنا. إن العجوز تقترب من زاوية الشارع(7)".

 

على الضفة الأخرى نجد عمر الحمزاوي يسلط الضوء على اللحظة التي يحياها، سواء أكانت جميلة تثير سعادته أم تعيسة تثير حزنه، كما أثارت غثيان روكتان، وها هو ذا يشكو في بداية رواية "الشحاذ" ما يعانيه من سوء (الآن)، في حوار مع صديقه الطبيب:

" ـ ما أجمل أيام زمان.

ـ الحقيقة يا دكتور. ما أجمل كل زمان باستثناء الآن(8)".

وتدخل "الأيام الأخيرة" في عرف محفوظ السردي إطار (الآن) لأن حدّ نهايتها يصل إليه، فنقرأ عبارتين بشعورين متناقضين عن تلك الأيام؛ إذ يحاور عمر صديقه الطبيب في بدايات السرد:

" ـ لكننا نحب الحياة، هذا هو المعنى.

ـ شدّ ما كرهتها في الأيام الأخيرة(9)".

وبعد انخراطه في اللذة بعد مارغريت ووردة، يقول لصديقه الصحفي: "لم أعرف للحياة طعماً كما عرفتها في الأيام الأخيرة(10)".

أما المستقبل فيشبه تلك الأسئلة الفلسفية الكبرى التي تثيرها الحياة للمتأملين فيها، يقول عمر للطبيب: "ثمة أسئلة بلا جواب. فأين طبيبها(11)".

 

خامساً ـ الوجودي يبحث عن سر الأسرار:

من المعروف أن أهمّ المبادئ الوجودية هو القول بأسبقية الوجود على الماهية، وأنّ "الإنسان يوجد، ثم يريد أن يكون، ويكون ما يريد أن يكونه بعد القفزة التي يقفزها إلى الوجود(12)"، ويشير سارتر إلى أنّ الوجوديين عموماً "سواء المسيحيين أو الملحدين، يؤمنون جميعاً أن الوجود سابق على الماهية(13)"، إنهم يقولون بعبارة أخرى إن المادة سابقة للوعي؛ وإذا كان مارتن هيدغر (1889ـ 1976) وسارتر وغيرهما من الوجوديين الملحدين يقدمون منظومة فكرية متناسقة، ليس من الضروري تبنيها، فإنّ فيدور دوستويفسكي (1821ـ 1881)، حاول القيام بتوليفة مبكرة، للجمع بين جوهر بعض مبادئ الفكر الوجودي والإيمان، وقدّم في "الإخوة كارامازوف (14)" مثالاً رفيعاً لمبادئ الوجودية، ربما يتفوق (من حيث البنية الفنية) على النماذج الأوروبية الغربية برمّتها.

 

فإذا عدنا لمقارنة الروايتين وجدنا بطل رواية "الشحاذ" لنجيب محفوظ أكثر إصراراً على طرح الأسئلة الكبرى عن الله والحياة، وقد كانت تلك الأسئلة تلحّ عليه، فيسألها بغض النظر عن المتلقي ومستوى وعيه وثقافته؛ فها هو ذا عمر الحمزاوي يسأل يزبك مدير الملهى الليلي الذي ترقص فيه ماغريت ووردة، بشكل مباغت:

"ـ هل تؤمن بالله؟

فأجاب الرجل بدهشة:

ـ طبعاً(15)".

وهو يتوجه بالسؤال ذاته إلى الراقصة/ العشيقة وردة، فتقول:

"ـ أومن به.

ـ بيقين؟

ـ طبعاً.

ـ من أين جاء اليقين؟

ـ إنه موجود. وكفى(16)".

وربما علينا أن نتساءل عن سبب اختيار عمر الحمزاوي هؤلاء لكي يسألهم، وهو المحاط في بيئة العمل والصداقة بالقضاة والمحامين والأطباء والمفكرين: أهو نوع من العبث مع الذات، أم استمراء للعذاب السيزبفي الذي لن يجد صفو شرابه في أمثال هؤلاء؟ ولماذا يختار يزبك ووردة، ليسألهما عن الحياة بعد سؤالهما عن الله؟ ولماذا يُجري نجيب محفوظ بعد ذلك على لسانيهما أجوبة لا تفتقد البساطة والعمق في الوقت ذاته؟

في حديث بين عمر الحمزاوي ويزبك عن معنى الحياة نقرأ ما يلي:

"ـ خبرني يا مسيو يزبك ماذا تعني لك الحياة؟

رفع الرجل حاجبيه الخفيفين دهشة، ولما قرأ الجد في وجه صاحبه قال:

ـ الحياة هي الحياة(17)".

وعندما يسأل الراقصة/ العشيقة وردة عن أعزّ أمنية في حياتها، تجيبه:

"ـ الحب.

فتمادى في عبثه البريء متسائلاً:

ـ هل فكرتِ يوماً في معنى الحياة؟

ـ لا معنى لها إلا الحب(18)".

 

وعلى الجهة الأخرى من الحياة تنبجس قضية الموت في الفكر الوجودوي، وفي الحق أن الوجودية مدينة بفلسفة ثنائية الحياة والموت إلى هيدغر (1889ـ 1976) الذي اهتم بالعدم، وفتّح الأذهان على الاهتمام بالوجود، وربما وسّع مدارك سارتر ليكتب كتابه الشهير "الوجود والعدم" الذي يقول فيه: "من الواجب أن نصرّح بأن الوجود هو الذي يمكن أن ينعدم، لأنه مهما يكن من شيء، فلا بد لما ينعدم أن يوجد أولاً(19)"، وقد برزت فكرة العدم، بوصفها ما وراء الظاهر، لدى بطل "الغثيان" الذي نقرأ له السياق التالي: "فما أشقّ أن يتخيّل المرء العدم! أما الآن فقد كنت أعرف: إن الأشياء هي برمتها ما تبدو عليه، وخلفها لا شيء(20)".

 

أما فكرة الموت الممتزجة بالعدم والمجهول، في رواية نجيب محفوظ فقد بدت غير مزعجة لعمر الحمزاوي، "ولكنها تحتم علي أن أذوق كنه الحياة(21)"، بل ربما بدا له الموت في بعض الأحيان هو الوجه الآخر للحياة؛ إذ يتخيّل أنه يشق صدر الراقصة منى؛ ليبحث عن الحقيقة الغائبة: "وتخيّل أنه يشق صدرها بسكين فيعثر في داخله عما يبحث عنه. القتل هو الوجه الخلفي للخلق(22)".

 

سادساً ـ البحث عن الحرية:

تبدو مسألة الحرية شديدة الأهمية في عرف الوجوديين؛ لأنّ "الشرط الأول للفعل هو الحرية(23)"، والحرية عندهم مسؤولة يسعى الفرد إلى تحقيقها في ذاته وفيمن حوله، يقول سارتر: "إننا سنمارس الحرية من أجل الحرية، وسوف نطلبها من خلال ظروف معينة، وبسعينا خلف الحرية نكتشف أنها تتوقف كلية على حرية الآخرين، وأن حرية الآخرين تتوقف على حريتنا(24)". وتبدو هذه الحرية في "الغثيان" و"الشحاذ"، حلية لفظية أكثر من كونها ممارسة أصيلة، أي أنّها لا تخرج، عند روكتان، عن إطار ممارسة الإرادة أكثر من الفعل "أردتُ أن أكون(25)"،  وممارسة الأفعال ذات الهوامش الصغيرة جدا التي تتجلى في مثل قوله: "وكنت حراً، وقد واصلت سيري في شارع بريسان الذي يفضي إلى متنزه لاغيتيه(26)"، وقوله: "سأقصد بعد قليل مقهى رانديفو دي شامينو؛ لأودع صاحبته. إنني حر(27)".  أمّا عند عمر الحمزاوي فقد أطّرها صديقه الطبيب بأن يمارس عمر حريته بوصفها نوعاً من الخلق في قوله: "من الآن فصاعداً أنت الطبيب، فأنت حر. والفعل الصادر عن الحرية نوع من الخلق(28)". وقد وقف عمر عند حدودها السلبية، فمارس حريته في العجز والهرب عن مجابهة الواقع، والبحث عن معنى الحياة خارج الحياة نفسها.

 (يتبع)......

.....................

هوامش:

  1. جان بول سارتر: الغثيان، مصدر سابق، ص5.
  2. المصدر نفسه، ص28.
  3. نفسه، ص30.
  4. نفسه، ص156.
  5. نفسه، ص7،
  6. نفسه،  ص46.
  7. نفسه، ص46.
  8. نجيب محفوظ: الشحّاذ، مرجع سابق، ص12.
  9. المرجع نفسه، ص12.
  10. نفسه، ص79.
  11. نفسه، ص14.
  12. المصدر نفسه، ص114ـ115.
  13. جان بول سارتر: الوجود والعدم (بحث في الأنطولوجيا الظاهراتية)، مرجع سابق، ص693.
  14. جان بول سارتر: الوجودية مذهب إنساني، مرجع سابق، ص58.
  15. جان بول سارتر: الغثيان، مصدر سابق، ص243.
  16. المصدر نفسه، ص ص 73ـ74.
  17. نفسه، ص225.
  18. نجيب محفوظ: الشحّاذ، مصدر سابق، ص23.
  19. نفسه، ص92.
  20. نفسه، ص83.
  21. جان بول سارتر: الوجود والعدم (بحث في الأنطولوجيا الظاهراتية)، مرجع سابق، ص78.
  22. جان بول سارتر: الغثيان، مصدر سابق، ص135.
  23. نجيب محفوظ: الشحّاذ، مصدر سابق، ص58.
  24. نفسه، ص14.
  25. نفسه، ص11.
  26. الإخوة كارامازوف: من أهم روايات دوستويفسكي، وتصنّف في مصاف الأدب العالمي، وقد عالج فيها كثيراً من القضايا التي تتعلق بالبشر، كالروابط العائلية وتربية الأطفال والعلاقة بين الدولة والكنيسة ومسؤولية كل شخص تجاه الآخرين، وقدم فيها نموذجاً للحرية المسؤولة التي طالما تغنّى بها الوجوديون.
  27. نجيب محفوظ: الشحّاذ، مصدر سابق، ص92.
  28. المصدر نفسه، ص118.

تعليق عبر الفيس بوك