إنجازٌ يحتذى

أنسية الهوتية

وبينما تسير الصغيرة "أثير" إلى منصة التكريم، تذكرت عيني ذاك الرجل العجوز ونظرته الثاقبة التي كان ينظُر بها إليَّ قاطباً جبينه عندما بدأت أُقهقه بصوت عال برد فعل عفوي على كلامه الذي قاله لي -باللهجة العامية: "لو باغية ولدي يلعب رياضة معاش تزوجيني قبل".. دقائق من الضحك الجنوني سبَّبتها تلك الكلمات التي دغدغتْ عقلي وحس الفكاهة لدي. نظرتُ إليه مرة أخرى وقد بدأ يمسح لحيته البيضاء الطويلة بيده اليمنى وعيناه فيهما شرار من نار، فشهقت أنفاسي، وبدأت أستغفر حتى استطعت كبح الضحك، ثم أخذت كوب الماء الذي أمامي وارتشفت منه رشفة طويلة حتى أهدأ احتراماً له وللحوار.

ومع علمي بأنه قال تلك الجملة تعجيزاً لنا، إلا أنَّنا استمررنا بمحاولات الإقناع لأخذ موافقته لممارسة ابنه -من الأشخاص ذوي الإعاقة- للرياضة، خاصة وأن مدرب المنتخب لرفع الأثقال قد لاحظ أن بنيته الجسدية مُمتازة لفئة الأوزان الخفيفة، وكان بمثابة ورقة ذهبية لنا.

ومن باب أن يستفيد الشاب من طاقاته، وأيضاً يُمثل الوطن في المحافل الرياضية، خاصة بعد أن أرسلنا الكثير من اللاعبين إليه، وأبدى رغبته، إلا أن والديه منعاه خوفاً عليه، ولم نرد أن نخسره لتميزه؛ فقررت أن أذهب إليهم بنفسي لإقناع ذويه وأهله وكانت لي صلاحيات في ذلك الوقت حين كنت العضو المقرر والأمين العام للجنة البارالمبية العمانية في بداياتها. ولكن، للأسف باءت محاولاتنا بالفشل.

والشيء الإيجابي الوحيد هنا أنَّ هذه العائلة على الأقل أدخلتنا إلى بيتهم، ولو أننا انتظرنا أمام البيت ما يقارب الساعة؛ فمن تجارب أخرى كنا نجلس إلى الساعتين أمام بعض البيوت ونحن غير مرحب بنا فنتعب ونعود أدراجنا خائبين.

وأيضاً تذكرت الكثير من الأسماء التي مرت علي من أشخاص ذوي إعاقة، وشهدت عليهم وما زلت أشهد بأنهم محاربون أشداء أقوياء تحدُّوا مجتمعاتهم، ذويهم، أهاليهم، وأظهروا للعالم قوتهم وإنجازاتهم وتقدمهم في الحياة، وبعد إنجازاتهم التاريخية تقبَّلهم المجتمع وتقبلت أهاليهم أنشطتهم وتبددت مخاوفهم الوهمية.

وكم كان يحزنني ويعصر قلبي وضعهم حين أراهم يحاربون أهاليهم لأجل حقوقهم الاجتماعية، بينما كان يجب أن يحارب أهاليهم معهم لأجل ذلك. وكانت المعاناة الأكبر لفئة الإعاقات الذهنية والتوحد، وبالأخص إذا كانت فتاة.

وتمنيتُ كثيراً أن أرى أولياء أمور يستكشفون طاقات أبنائهم من ذوي الإعاقة ويقودونهم إلى باب النجاح ويشجعونهم على عدم الخوف من الفشل أو من الانتقادات، والحمدلله لم أنتظر طويلاً ورأيت ذلك في إنجاز "أثير" حين فازت بـ"جائزة الرؤية لمبادرات الشباب" في التطوير الشخصي في نسختها السابعة.. أصغر رائدة أعمال في السلطنة وهي "فتاة" من "الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية "توحُّد"، وأتمنى أن تكون أثير ووالداها مثالاً يحتذى.

ومن هذا الباب، أوجِّه رسالة حب لأولياء الأمور، وأقول لهم إنَّ أبناءكم وبناتكم من ذوي الإعاقة نعمة من الله، وما فقدوا شيئًا إلا أن عُوِّضوا بشيء آخر. فاسعوا لاكتشافه وساعدوهم بتحرير طاقاتهم وإبداعاتهم ليصلوا إلى أهدافهم ويضعوا بصمتهم في الحياة، هم بشر من فكر ومشاعر.. ليسوا تحفاً زجاجية توضع في علب خشبية مظلمة خوفا عليهم من الكسر!