عبدالنبي الشعلة
صديق بريطاني يعمل في لندن خبيرًا في مجال "اصطياد الرؤوس" وهي ترجمة حرفية لوظيفة "Head Hunting" أو البحث عن كبار المديرين والمسؤولين المُؤهلين لشغل وظائف ومناصب عُليا في كبريات الشركات، قال لي هذا الصديق إنِّه سيكون مشغولاً جدًا في الفترة المُقبلة في الاتصال بهذا العدد الكبير هذه المرة من الوزراء وأعضاء مجلس العموم وغيرهم من كبار المسؤولين الذين فقدوا وظائفهم ومراكزهم ومقاعدهم أو انتهت مدة عضويتهم أو خسروا أو تمَّ الاستغناء عنهم على أثر الانتخابات البرلمانية التي أجريت في بريطانيا في الثاني عشر من هذا الشهر، وأحرز فيها حزب المُحافظين انتصارًا ساحقًا ما يعني ضرورة إعادة تشكيل الحكومة والعديد من الأجهزة الحكومية الأخرى.
إنَّ الوزراء والبرلمانيين وكبار المسؤولين في بريطانيا، كما في الغرب ودول أخرى، بعد انقضاء مدتهم في المناصب العامة، لأي سبب من الأسباب ما عدا في حالات الفضائح والجرائم، يتم الاتصال بهم وعرض وظائف عُليا ومراكز قيادية عليهم في المؤسسات الاستشارية والبنوك وشركات القطاع الخاص الأخرى؛ للاستفادة من خبراتهم ونفوذهم وشبكات اتصالهم، ويتم دعوتهم عادة للانضمام لمجالس الإدارة أو رئاسة لجان أو تكليفهم بمهمات مُحددة تدخل غالبًا في مجال تخصصهم أو تحتاج إلى خبرتهم أو مكانتهم أو دوائر وحلقات اتصالهم، أو لاستخدام أسمائهم وشهرتهم لدعم برامج وأنشطة العلاقات العامة للشركة، وقد عُرف عن مؤسسات التدقيق والاستشارات الأربعة الكبرى حرصها على ضم كبار المسؤولين المنتهية خدمتهم أو المتقاعدين إلى أطقم كبار الخبراء والمستشارين فيها.
في بريطانيا والدول الغربية بشكل خاص، فإنَّ الوزير أو المسؤول الكبير، فور تقلده لمسؤولياته الرسمية، يبدأ في الإعداد والاستعداد في الوقت نفسه لمرحلة ما بعد المنصب، فتراه يُدون ويُسجل في مفكرته اليومية كل فعل فعله أو إنجاز حققه وكل مشاهداته ومُلاحظاته.
وفي هذه الدول أيضًا يبدأ الرؤساء ورؤساء الوزراء والوزراء وكبار المسؤولين السابقين، فور انتهاء مهامهم الرسمية بإلقاء المُحاضرات في الجامعات والمؤتمرات وكتابة المقالات والمذكرات وتأليف الكتب؛ فتدر عليهم هذه الأنشطة أرباحًا ومداخيل مجزية يبلغ معدلها من 3 إلى 25 ضعفًا للمرتبات التي كانوا يتقاضونها عندما كانوا في وظائفهم ومراكزهم الحكومية، بالإضافة إلى أنهم يستطيعون من خلالها الاستمرار في عطائهم والإبقاء على حضورهم الاجتماعي ونشاطهم الذهني.
وهناك هيئة أو إدارة حكومية في بريطانيا باسم "اللجنة الاستشارية للتوظيف في القطاع الخاص (ACOBA) تابعة لمجلس الوزراء اختصاصها المُوافقة على التحاق الوزراء وكبار المسؤولين بمؤسسات القطاع الخاص بعد انتهاء مهامهم الرسمية، هذه الهيئة تبت في طلبات يبلغ معدلها 150 إلى 200 طلب في العام.
وعندما كنت في موقع المسؤولية الرسمية كنت وراء دعوة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب الذي خسر سباق الرئاسة في العام 1993 لصالح الرئيس الديمقراطي بيل كلنتون، وذلك لإلقاء كلمة في أحد المؤتمرات الكبرى التي عُقدت في البحرين في العام 1999، وقد انحصرت كلمته بالمؤتمر المذكور في دور أمريكا في تحرير الكويت الذي تحقق في العام 1991 أثناء فترة رئاسته، أي أن كلمته في البحرين جاءت بعد 8 سنوات من التحرير وبعد 7 سنوات من مُغادرته لمنصبه، لكنه لم يذكر أو يكشف في كلمته عن أي معلومات جديدة أو يضيف إلى ما تمَّ ذكره ومعرفته ونشره من قبل، وقد تقاضى مُقابل ذلك رسومًا أو أتعابًا عالية جدًا لا يجوز لي أن أذكر حجمها، وخلال السنوات اللاحقة استمعت إلى كلمات ألقاها الرئيس بوش ذاته في مناسبات وأماكن مختلفة لم تختلف كثيرًا عن الكلمة التي ألقاها في البحرين وربما تقاضى مُقابلها أتعاباً ورسوماً تفوق ما تقاضاه في البحرين. وبالمُناسبة فإننا لما ذكرنا في الدعوة أنّ الكلمة الرئيسية في المؤتمر سيلقيها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش طلبت السفارة الأمريكية منا حذف كلمة "السابق" لأنَّ الرئيس في أمريكا يظل محتفظًا بلقب "الرئيس" حتى بعد انتهاء مدته ومُغادرته البيت الأبيض.
ومن المسؤولين السابقين الذين التقيتهم توني بلير الذي عَرف جيدًا كيف يستثمر ويستفيد من ماضيه وموقعه السياسي، والذي كان قد قضى ثلاث دورات متتالية كرئيس لوزراء بريطانيا العظمى انتهت في العام 2007، وبعدها واصل واستمر في نشاطه وحيويته، وصار دخله السنوي من أعلى المداخيل السنوية لأي مسؤول بريطاني سابق، فإلى جانب المقابلات والمقالات التي كان يكتبها والخطب والكلمات والمحاضرات التي كان يلقيها في الجامعات والمؤتمرات ويتقاضى عليها رسومًا عالية، ألَّف بلير مجموعة من الكتب ظلت تدر عليه ملايين الجنيهات لفترة طويلة؛ منها مذكراته التي نشرها بعنوان "رحلة.. حياتي السياسية"، وكتاب "بريطانيا الجديدة.. تصوري لدولة شابة"، وكتاب "الطريق الثالث.. سياسات جديدة لقرن جديد" وغيرها من الكتب.
إنَّ حال الوزراء والسياسيين وكبار المسؤولين في الغرب وما يؤدونه من أدوار أو يحققونه من موارد ومكتسبات بعد انتهاء مهامهم الرسمية لا تقارن بما يُحققه أقرانهم في الدول الخليجية.
فدولنا العربية الخليجية لم تعرف في تاريخها المُعاصر نظام التشكيل الوزاري بمفهومه الحديث إلا بعد أن بدأت في نيل استقلالها في النصف الثاني من القرن الماضي.
كما أنّ دولا كثيرة أخرى أكثر منِّا تقدمًا وعراقة في هذا المجال لم تعرف هذا النظام إلا في مراحل متقدمة من تاريخها وتكوينها السياسي، فقد كان الملوك هم رؤساء الدولة والحكومة في وقت واحد، وكانوا يشرفون على إدارة شؤون البلاد بشكل مُباشر كما هو حاصل حتى الآن في بعض الدول.
فهذه بريطانيا العظمى وهي رائدة وأم التنظيمات الإدارية لم تعرف منصب رئيس الوزراء حتى العام 1714 عندما اختير الملك جورج الأول ليخلف الملكة "آن"؛ لأنه كان أقرب أقرباء الملكة ممن يعتنقون المذهب البروتستانتي، لكنه كان ألمانيًا ولم يكن يجيد اللغة الإنجليزية، وهو أمر سيُؤدي إلى إعاقة وعرقلة تواصله واتصاله ومخاطبته لشعبه ومسؤوليه، فتم اختيار السياسي من حزب الأحرار البريطاني روبرت والبول الذي عين كأول مسؤول عن الخزانة ورئيسًا لمجلس العموم مما جعله مسؤولًا عن إدارة الحكومة دون أن يحمل لقب رئيس الوزراء.
إنَّ الأنظمة الحاكمة في منطقتنا العربية الخليجية، على الرغم من حداثة استقلال دولها، فإنَّ بعضها قطعت أشواطًا واسعة في توجهها نحو تطبيق النظام الديمقراطي، إلا أن السلطة التنفيذية بقيت تتمتع بشبه استقلال أو فصل كامل عن السلطة التشريعية، ولا يتم تشكيلها من خلال صناديق الاقتراع أو حسب معايير النظام البرلماني الذي يتيح للحزب الفائز في الانتخابات تشكيل الحكومة، ولكنه يتم بقرار من رأس الدولة الذي يتولى، بالتشاور، اختيار الوزراء ورئيسهم والطاقم الإداري آخذًا في الحسبان جملة من العوامل والمعايير والاعتبارات أهمها مكانة الفرد وإمكانياته وقدراته، إلا أنَّ معادلات ومقتضيات التوازن القبلي والأسري والمناطقي والمذهبي وغيرها كانت تطغى على كل الاعتبارات في الكثير من الأحيان، وتجعل عملية الاختيار حساسة ودقيقة وخاضعة للكثير من المُراجعات والمشاورات والغربلة والتمحيص، وبالنتيجة، وحتى عهد قريب، فإنِّه عندما يُعين الوزير على سبيل المثال يبقى في منصبه لسنوات أو ربما لعقود طويلة أو أطول مدى ممكن، ويدعم مثل هذه الممارسة ثقافة أنظمتنا الحاكمة المبنية على الثقة واحترام المسؤول عندما يكون مخلصًا في عمله، وتعزيز العلاقة به، والاستفادة من تراكم خبراته كلما طالت مدة خدمته، وتقدير عطائه وتفانيه وولائه؛ فلا يجب أو يجوز أن يكافأ أو يجازى بالتخلي عنه وطرده وإزاحته عن منصبه، وهذا ما يجعل الوزير يتوصل في قرارة نفسه بل يقنعها بأنَّه باقٍ في منصبه حتى النهاية ويتصرف على هذا الأساس.
وفي حالة الحاجة أو الاضطرار إلى استبدال الوزير مثلًا فقد ابتكر حكام الخليج مصطلح "إعفاء" وهي تسمية أو كلمة مهذبة ولطيفة تحمل بين طياتها معاني الترضية والتقدير ومُراعاة الشعور، ولكنها تعني في النهاية الاستغناء عن الخدمة، ولا تستخدم في مثل هذه الحالات مصطلحات مثل الإقالة أو الطرد أو العزل أو الفصل في دولنا الخليجية إلا نادرًا.
وحتى عهد قريب أيضًا فإنَّ الوزراء "المعفيين" يظلون يتمتعون بثقة وتقدير رأس الدولة فيتم تعيينهم في الكثير من الأحيان "مستشارين بدرجة وزراء" وهذه أيضًا تسمية غير متداولة أو مألوفة في دول أخرى غير دولنا الخليجية، أو يتم تعيينهم سفراء، ومن لم يحظَ بأي من ذلك فإن البعض منهم يقع فريسة الاعتقاد بأنه تم الغدر أو التضحية به أو التخلي عنه وإهماله وتهميشه، ويعتبر حتى "الإعفاء" نقيصة وإهانة، فيكتفي بالانزواء في خانة التقاعد والانكفاء، ولا يسمح للمُجتمع بالاستفادة من التجارب والخبرات التي اكتسبها أثناء تقلده وأدائه لمهامه الرسمية.