قراءة كاشفة في "مذاق الصبر" للروائي العُماني محمد عيد العريمي

 

سمير عبد الصمد| الأردن

 

يقول الممثل والمخرج بدر بن سيف النبهاني: لعلَّ أهم ما يميز أدبَ السيرةِ الذاتية كميّةُ الصدقِ التي تملأُ جنباتِ النصِّ فتفيضُ إلى عقلِك وقلبِك ووجدانِك لترويهم من تلك التجربةِ، وغالبًا ما تقودك إلى الإعجاب الشديد بذلك التسامح العجيب مع الواقع، وتأسرك تلك المساحات الواسعة من الرضا بالقضاء والقدر، وتحمُّل مذاق الصبر المر، كما هو الحال في رواية (مذاق الصبر) للمبدع محمد عيد العريمي، صدرت الطبعة الأولى من دار الفارابي، بيروت،2001،أما الطبعة الثانية فصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2005، والطبعة الثالثة من المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2006. جاء هذا الكتاب بعد عشرين سنةً من مُعاناةِ الإعاقةِ بسبب حادثٍ تعرض له وهو في الطريق من ولايته صور إلى حقول النفط الصحراوية، أدى به إلى شلل رباعي، غَيَّر مجرى حياته.  وقد تأخر العريمي في إخراجِ مكنونات هذه التجربة، أخَّره عن ذلك، كما يذكر، عدة أسباب من أهمها الخوف من استحضار التجربة ذهنيًا، وبخاصة في سنواتها الأولى المرّة، بعد صدمة اكتشافه فجأة أنه غير قادر حتى على حكِّ أنفه. ويمكنكم أن تتخيلوا ماذا يقصد بالخوف هنا بعد مرور عشرين سنة على تلك الصدمة، إنه ذلك الشعور بالنفي والغربة والعزلة الروحية عن جسد عاش معه كل حياته، تخيّل أن تجد نفسك منفيًا من نفسك ذاتها. أيَّ مذاقٍ للصبر تجرّعه هذا الإنسان؟ وأي تجربة هو مقبل على خوضها؟ وأي صحراء كتب عليه قطعها وحيدًا في سنين موزعة بين القيظ والبؤس والغربة؟ ومع ذلك نجح العريمي في تجاوز محنته، وأوجد لنفسه واحاتٍ خضراءَ في مسيرته الشاقة، فليس أصدق من هكذا تجربة تعلمك أن الإنسان يمتلك قوة خارقة بداخله، كفيلة بتخليصه من أية معاناة قد تواجهه مهما عظمت. حاز محمد عيد العريمي على جائزة الإنجاز الثقافي البارز في عُمان لعام 2015، والتي تقدمها مبادرة: (القراءة نور وبصيرة).

يقول الدكتور محمد الذهب في تقديمه للكتاب: تجربة الصديق محمد عيد العريمي مختلفة، ولعل هذا الاختلاف هو الذي يجعلها جديرة بالاهتمام، هي تجربة زاخرة بالمواقف الإنسانية، التناقض فيها وارد، والحبُّ يملأ القلب عطرًا، والتضحية تكتسب مكانًا متقدمًا من تلك المواقف.

 

         ويقول الناقد الدكتور ضياء خضير: هذا كتاب فريد في بابه يحتلُّ أو ينبغي أن يحتلَّ مكانة متميزة بين الأعمال الأدبية الخليجية والعربية المشابهة، وهو كتاب أقرب بطبيعته إلى السيرة الذاتية، يعبّر عن رؤية تتعدى وصف الواقعة أو الوقائع الشخصية لتشكل في الوقت نفسه، واقعة أو وقائع اجتماعية وثقافية محددة.

يبدأ محمد عيد العريمي سرد ذكرياته من تلك البدايات التي عاشها في قريته (وادي المر) الواقعة على حدود الربع الخالي من رمال الشرقية، ويتحدث عن قسوة الطبيعة في ذلك المكان النائي، الذي تكاد تنعدم فيه مقومات الحضارة، فهو لم يرَ حتى العاشرة من عمره أيَّ كتاب مطبوع سوى القرآن الكريم. على تخوم هذه الصحراء تشكلت الذاكرة الأولى للعريمي، فعاش فيها نقيًّا صافي الذهن، وتربّى فيه صلبًا عزيز النفس قوي الإرادة، هذه الصفات التي تُفرَضُ فرضًا على مَنْ عاش في هذه المناطق الشحيحة المترامية الأطراف. ولم يكن يدور بمخيلته ذات يوم أن العالم أوسع بكثير من بلدته الصغيرة وصحرائه الواسعة، لم يحلم يومًا أنه سيحطُّ رحاله في الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الهندسة الصناعية.

           ويصف العريمي رحلته الأخيرة من صور إلى مسقط في 14يوليو 1981، قائلًا: كان دعاء أمي رقيقًا ينضح منه دفء الحميمية التي تجسد الأمومة بكل أبعادها ومعانيها وقدسيتها، وكان وداع زوجتي رقراقًا حملته ابتسامة هدهدت دواخلي وشدّت روحي للبقاء. ركبت سيارتي من مدينة صور متوجهًا إلى مطار السيب للسفر على متن طائرة شركة تنمية نفط عُمان المتوجهة إلى حقول النفط في مرمول بالصحراء الغربية، كان ذلك أسبوعي الأخير في ذلك المكان النائي، قبل إجازتي السنوية والسفر لقضاء شهر العسل الذي طال انتظار زوجتي له لأعود للعمل في مقر الشركة في مسقط. وفي الطريق، وفي وقت مبكر من الصباح اتخذت حياتي منعطفًا آخر حينما اعترض جملان طريقي، حيث صدمتْ سيارتي أحدَهما بقوة، رفعته عاليًا؛ ليرتطم بسقفها ويهوي بثقله على رأسي.

ويضيف: في مستشفى خولة، أدركت خطورة إصابتي حين رأيت، بعد أن استعدت كامل وعيي، الجزء العلوي من جسدي داخل شرنقة جبسٍ امتدت ما بين أسفل البطن إلى أعلى العنق، والأنابيب تدخل وتخرج من الجزء السفلي، لقد أصبتُ بشلل نصف كامل، هتفت من أعماق نفسي: رحمتك يا رب، داعيًا الله العليَّ القدير أن يهوّن إصابتي. في اليوم التالي، فتحت عينيَّ على أمي وزوجتي بجانب السرير، طغى الحزن والأسى على وجه والدتي وهي تذرف الدمع بلا انقطاع، بينما كانت زوجتي فاطمة تنظر إليَّ بابتسامة تخفي وراءها اضطرابًا بالغًا وحزنًا كبيرًا، ابتسامة لا تشبه تلك التي ودّعتني عندما غادرت المنزل فجر اليوم السابق.

بعد شهرين من العلاج تكفّل الطاقم الطبي لدى شركة نفط عُمان بنقله إلى بريطانيا؛ للعلاج في مستشفى بادوكس، المتخصص بإصابات النخاع الشوكي، وبعد ثمانية أشهر من المعاناة المتواصلة، استُنفذت خلالها كل وسائل العلاج، أكّد له الطبيب المختص عدم وجود أي تطور ملحوظ أو أية بارقة أمل بتحسّن حالته الصحية، فأرّقته هواجس الخوف والحزن واليأس، والنظرة اليائسة إلى المستقبل، فقد أصبح من أولئك الذين يطلق عليهم (ذوو الاحتياجات الخاصة).

يصف العريمي لقاءه والدته في صور لأول مرة بعد عودته من العلاج، فهي لم تستطع أن تنبس ببنت شفة، ولا حتى توجّه نظرها إليه، فقط كانت تذرف الدموع بسبب الصدمة التي نزلت عليها برؤية فلذة كبدها على كرسي متحرك.

يقول: لقد أخلّت الإعاقة بحياتي على كافة مستوياتها: الصحية والاجتماعية والزوجية والوظيفية، وسواء أقبلت وضعي الجديد كمعوّق، أو رفضته أو نسيته أو تجاهلته، كان لا سبيل أمامي سوى أن أتصالح مع الإعاقة وأقبل شروطها، وأتعايش مع تبعاتها، وألتزم بقوانينها مهما كانت قاسية، وكان عليَّ بناء حياة جديدة على أنقاض أخرى تحطمت، وبناء أحلام أخرى في إطار الحدود التي يفرضها وضعي الصحي الجديد.

ويضيف: وبعد عشرين عامًا من الصراع المتواصل مع الإعاقة وتداعياتها المختلفة على الجسد والنفس، قررت أن الوقت حان للبوح، وإطلاع الآخرين على ماذا يعني أن يجد الإنسان نفسه فجأة وقد فقد الإحساس في معظم جسده، ولم يعد يقوى على حكّ أنفه، متوقفًا عند المفاصل الأساسية من تجربتي، ودوَّنت ما اعتقدت أنه يخدم هذه المحاولة دون التطرق إلى ما لا يضيف إليها شيئًا. وقد يُعزى تأخري في الكتابة عن تجربتي إلى الخوف من استعادة تفاصيل أيامٍ هي الأسوأ في حياتي، لا سيما تلك الأيام المرتبطة بمعاناة السنوات الأولى، الأكثر ألـمًا، الأكثر ترسَّخًا في ذاكرتي.

يتحدث الكاتب بأسلوب راقٍ مؤثر عن حياته الخاصة، والمصاعب التي واجهها، ونظرة المجتمع إلى المعوّق، وعلاقاته مع أسرته وزوجته وأصدقائه، وعن علاجه داخل السلطنة، ثم نقله للعلاج خارج السلطنة.

يمثّل الكتاب في مجمله صورة حية عن إرادة التحدي: تحدي الإعاقة، وتحدي نظرة المجتمع السلبية، وكيف تحوّل محمد عيد العريمي من مُصابٍ ضعيفٍ جديرٍ بالشفقة إلى إنسان مُنتجٍ يتسم بالقوة، وكيف تحوّل من مهندس ميداني إلى مترجم في الشركة نفسها؛ ليضفي إحساسًا بقيمة ذاته، وحقها في الحياة الكاملة الكريمة، إنه نصر لا يعرف معناه إلا من جربه.

هذا عرض موجز يدعوكم لقراءة مذاق الصبر كاملًا.

يقع الكتاب في نحو مئتي صفحة من القطع المتوسط، صدرت طبعته الرابعة عن مكتبة بيروت. علمًا أن الكتاب مترجم للغة الإنجليزية بعنوان: A Taste of Patience

 

تعليق عبر الفيس بوك