عبيدلي العبيدلي
اثنا عشر عاما تفصل بين طبعتي كتاب "الحركات الدينية في الخليج العربي"، لمؤلفه الباحث الاجتماعي د. باقر النجار، ومن إصدارات دار الساقي، والذي أضيفت صفة "المعاصرة" لعنوان الطبعة الثانية من ذلك الكتاب، الذي يرصد مسار تلك الحركات بأصولها الطائفية المختلفة، وجذور تأسيسها المتفاوتة، التي يعود البعض منها إلى العقد الرابع من القرن العشرين، كما يرد في الطبعتين.
قد تبدو المسافة الزمنية قصيرة نسبيا بين الطبعة الأولى 2007، والثانية 2019، عندما تقاس بعدد السنين، لكنها غنية بوقائعها على الأرض، وبالدروس المستقاة من تلك الوقائع أيضا، ناهيك عن الرقعة الجغرافية والسكانية التي نشطت فيها تلك الحركات، سياسيا وعسكريا، والتي توسعت خلال تلك الفترة، فباتت تمتد من كابول في أفغانستان، حتى نيويورك في الولايات المتحدة، عابرة الأراضي العربية في رحلة التوسع والتمدد تلك. دون أن ينسينا ذلك أن الكتاب يحصر نفسه في منطقة الخليج العربي سياسيا.
ورغم وجود نسبة لا بأس بها من المساحات المشتركة بين الطبعتين، وهو أمر مقبول ومنطقي، لكن هناك أيضا الكثير، وهذا ما يبرر، ويفسر أيضا، إصدار الطبعة الجديدة؛ استجابة لتلك الأحداث التي عرفتها المنطقة، والمكتظة بالمعلومات المستجدة، والاستنتاجات الجريئة التي تميز بينهما.
لهذا؛ جاءت الطبعة الجديدة المنقحة كي تتجاوز الأولى كما وكيفا. وهو أمر نلمسه في سرعة خاطفة من خلال الاطلاع على ما جاء في صفحتي الغلاف الأخير من كل منهما على حدة.
إذْ ترصُد الطبعة الأولى "وتيرة تنامي التيارات الإسلامية بشقيها السني والشيعي في الخليج، وسعيها الحثيث إلى أسلمة الدولة، وتسلم السلطة.
ويتناول كذلك موقف الدولة من هذه التيارات، وانتقالها من طور الرافض لقوى الإسلام السياسي في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، إلى طور المهادن لها، وإشراك بعضها في السلطة في بعض دول المنطقة. ويتطرق إلى كيفية تحول مصطلح الإسلام السياسي من إطاره الشعائري والطقوس، إلى الإطار الثقافي والأيديولوجي، خدمة لأهداف الجماعات الإسلامية المعارضة".
في حين تعالج الطبعة الثانية "حالة الإسلام السياسي المعاصرة في الخليج العربي منذ بدايات تشكّله حتى الآن، ويتطرّق إلى طبيعة خطاب هذه الجماعات وعلاقات بعضها ببعض من ناحية، وعلاقتها كلها بالدولة من ناحية أخرى، خاصّة أنها استطاعت أن تحتلّ موقع الثقل في المجتمع بسبب طبيعة خطابها وقدرتها على الوصول إلى الناس".
وقبل التوقف عند ما جاء في الكتاب، نجد لزاما الإشارة إلى أهم المتغيرات التي عرفتها الساحات التي عرفت تطورات جذرية، انعكست على مسار الحركات الدينية، وتركت آثارها على الحركات الإسلامية الخليجية.
أول تلك التحولات كان الانسحاب السوفيتي من أفغانستان، عندما شرعت موسكو في سحب القوات السوفيتية في أفغانستان بداية يوم 15 مايو عام 1988، بموجب اتفاقية جنيف المجتمعة بين الولايات المتحدة والاتحاد، والذي بموجبها "كان على الجيش السوفيتي المهاجم مغادرة الأراضي الأفغانية مقابل وقف تمويل السلاح للأفغان من قبل باكستان والحكومة الأمريكية".
ثاني التحولات كانت تلك التي عرفها حزب الله وعلى مجه الخصوص منذ العام 2006، والتي كان من نتائجها ذلك الزخم الذي حول حزب الله، بفضل الدعم السياسي والعسكري الذي نالهما الحزب من طهران، إلى رقم صعب في معادلة الصراعات في منطقة الشرق الأوسط. ترافق ذلك مع نجاح التمدد السياسي والعسكري في المنطقة، حتى باتت إيران قوة تتحكم في صنع القرار السياسي في كل من سوريا والعراق، وإلى حد بعيد في لبنان.
اندلاع الحراك السياسي الذي اكتسب اكتساحا جماهيريا في العام 2011، الذي اجتاح المنطقة العربية، وكان من أهم ثماره، وصول قوتين سياسيتين إسلاميتين سنيتين إلى الحكم، هما حركة الإخوان في مصر؛ حيث أصبح محمد مرسي رئيسا للجمهورية، وحركة النهضة في تونس، بعد فوزها في انتخابات الرئاسة هي الأخرى.
اندلاع الحرب في اليمن عندما شن "التحالف العربي في اليمن" بقيادة السعودية، عمليات عسكرية جوية ضد الحوثيين في مارس 2015، "استجابة لطلب من رئيس الجمهورية اليمنية عبد ربه منصور هادي بسبب هجوم الحوثيين على العاصمة المؤقتة عدن"، والتي عبرت عن صراع قطبي الإسلام السياسي في المنطقة.
هذه التحولات تنعكس في النتائج التي توصل لها د. باقر النجار في الطبعتين؛ فنجده في الطبعة الأولى، يخلص إلى القول (ص:116-117)، بأن "جماعات الإسلام السياسي في الخليج العربي، بشقيها السني والشيعي، كما هو حال القوى والجماعات السياسية الحداثية أو العلمانوية، ستأخذ دورتها في الصعود ومن ثم الهبوط. وأعتقد أنها وصلت إلى قمة الهرم، أو (ذروة القوة)، وإن أفولها قد يأخذ بعض الوقت، علما بأن ما أصاب غيرها من القوى السياسية والاجتماعية من وهن سيصيبها هي كذلك... فهذه القوى (يقصد الإسلامية) لا تستطيع أن تستمر في تعاملها مع قضاي العصر والكون بالعقلية التقليدية نفسها، إن هي رغبت في أن يكون لها مكان في المجتمع".
أما في الطبعة الثانية؛ فهو يخلص إلى القول (ص:243) بأن "التحدي الأكبر أمام الإسلام السياسي، في داخل دائرة الحكم وخارجها يكمن في قدرتهم على إدارة شؤون الدولة بأنماط الحكم العصري، وإلا فما الفرق بينهم وبين الآخرين من أصحاب التيارات الليبرالية الذين أخفقوا في إدارة الدولة وفق منطقها العصري؛ فالخطابات الدينية، كما هي الخطابات الشمولية الأخرى لا تطعم جائعا.... إن الدين وحده لن يحل معضلات العصر، وإخفاقات النهوض، إن لم تتضافر معه نتاجات العصر المعرفية والتكنولوجيا الحديثة. إن القدرة على أن يتحول الدين إلى قيم رافعة للنهوض يمثل التحدي الأساسي ليس لجماعات الإسلام السياسي فحسب، وإنما المؤسسة الدينية، بل جل مجتمعاتنا العربية".
ومن الواضح جدا تفاعل الكاتب مع التحولات التي عرفتها المنطقة خلال الفترة الممتدة بين الطبعتين، والمشار لها أعلاه. وواضح معها أيضا قدرته على قراءة انعكاسات تلك التحولات على الحركات الإسلامية المعاصرة في المنطقة، ومن بين الأهم فيها وصول الإسلام السياسي إلى السلطة، ومواجهته للتحديات التي يفرضها ذلك الوصول.. كل ذلك يجعل من قراءة الطبعة الثانية أكثر من متعة، والعودة إلى الطبعة الأولى أقوى من نداء.