حمد بن سالم العلوي
لقد ظلَّ الندم يعصرُ قلوبَ بعض المختصين الإقتصاديين لبيع الإنتاج الأول من الغاز؛ وذلك في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، وحمِّلت مسؤولية ذلك لوزارة النفط والثروة المعدنية التي كان اسمها هكذا وقتذاك، ففي ذلك الوقت لم يكن النظام الأساسي للدولة قد صدر، حتى يوضح اختصاصات مؤسسات الدولة القانونية، أما وقد أصبح النظام الأساسي للدولة بين أيدينا، وعرفنا كُنهه ومعناه وحدوده ومبتغاه، وقد ألزم العرض على مجلسي الشورى والدولة كل مشاريع التنمية الوطنية، وكذلك الخصخصة والبيع لأخذ موافقة الشعب العُماني من خلال ممثليه في مجلس عُمان، وهذا الذي لم يحصل يوم قررت وزارة المالية بيع جزء من شركة الكهرباء، ومن وجهة نظري الخاصة أرى أن يسبق ذلك أخذ رأي الأمن الوطني للبلاد، وذلك لكي لا تفتح فجوة بغير قصد في جدار الأمن القومي، فينفذ منها الأشقياء الذين يُضِيرهم تقدم عُمان وتطورها؛ ذلك حسداً من عند أنفسهم، وقد أصبحت لنا تجارب سابقة من بعض المتربصين بنا شراً، ونحن نعرفهم اليوم جيداً، أكثر من ذي قبل.
إنَّ الخصخصة السليمة، والمولودة ولادة طبيعية لا قيصرية لن يجادل فيها مجادل، والغرب المتقدم يجنح للخصخصة، ولكنه لا يأتي بأجانب لفعل ذلك، ونحن لدينا شركات وطنية متخومة بالأموال العُمانية، وذلك حلالهم ولا نحسدهم على شيء فيه، لكنها ما كانت لتكون أو تتكون تلك الأموال دون الأمن والاستقرار والعدل، ولدينا شعب متعلم جاهز للعمل، ولا يتأفف عن ذلك مطلقاً، وهمه الرقي بعُمان عن رغبة وعزم، لكن علينا أن نرسم له المسار الصحيح والواضح، وأن نُزيل العقد من طريق الجانبين الشركات والمواطنين، حتى عقدة الراتب يجب حلها بالدعم من صندوق ينشأ لهذا الغرض، وقد ظللت أطالب بذلك من فترة بعيدة وما زلت على نفس الرأي، وقد علمت لاحقاً من تعليق شخص موثوق على مقالتي الأخيرة، إنَّ مثل هذا النظام المقترح معمول به في تونس، لكنه لا يعرف إن كان لا يزال مستمراً أم لا، وعُمان دفعت الكثير من الأموال للنهضة المباركة، فلِما لا تدفع من أجل تطوير هذه النهضة، ودعم المواطن واستقراره.
لقد كُنت في ولاية أوهايو الأمريكية ضمن وفد رسمي عام 2012م، فشمل البرنامج زيارة "جريدة سنسناتو" فبعد لقاء مع رئيس التحرير، أخذنا لنحضر جلسة في محكمة الولاية، حول قضية رفعتها الجريدة ضد بلدية سنسناتو؛ لأنها أرست مناقصة على شركة إيطالية لإنشاء مترو للمدينة، فساور الجريدة الشك وليس المجلس الوطني للولاية، بأن البلدية ربما تجاوزت كل الشركات الوطنية، إلى شركة وافدة لمصلحة ما، وهذا الكلام عن مشروع منقطع بانتهاء المهمة، وليس كخدمة الكهرباء التي ليس لها عُمر معلوم، على الأقل في وقتنا الراهن.
لقد أعقب خبر التوقيع على بيع جزء من شركة الكهرباء على شركة صينية، والتلويح ببيع جزء كذلك من شركة النفط، نشر تعليق ساخر على شكل تحليل عن الخصخصة في العرف العربي، وزعم هذا المحلل الذي لم يرفق اسمه بالمنشور، فقال متهماً المطربة سميرة توفيق التي غنت في مطلع سبعينيات القرن الماضي، أغنية وهي تقول في مطلعها لخطيبها "بيع الجمل يا علي واشتري مهر إلي" فلم يدر في خلد أحد منا أنها كانت تشرع لخصخصة الأصول من الممتلكات، وبذلك تسنُّ قاعدة يتم تطبيقها اليوم بعد مضي أربعة عقود ونيف، وعندما رأت إن الخطيب يتردد عن بيع الجمل حثته بالتشويق للهدف، وهو ما يسمى اليوم بالتسويق للمشروع؛ فقالت له أي الخطيب واسمه "علي" كما سبق ذكره في الأغنية، إن كرمها لوّح واستوى أي "عنقود العنب" أصبح ناضجاً لتستعجله في البيع، وأمام هذا الإلحاح والإغراء القوي من الخطيبة باع الخطيب الجمل، ولكن ربما الجمل كان هزيلا فلم يأتي بالمهر المرسوم، فطالبته أن يعود لبيع النعجة والحمل، وكررت عليه الطلب بقولها "بيع .. بيع يا علي" فعندما تتحكم الأنانية والعواطف في الإنسان فيصبح يطالب بالمزيد.
فهل يا ترى كلما لاح كرم من كروم النهضة، ونكون قد دفعنا فيه الشيء الفلاني؟ سنقوم بالبيع عند النضج، واقتراب قطف الثمر، ألسنا نحن أولى بقطفه، ونحن أولى بالحفاظ عليه من الغريب؟!! ألا نريد أن يأتي المستثمر لإيجاد شيء غير موجود من الأصل، وأن يستثمر هو أمواله ولفترة محدودة من الزمن، ثم نُعيد التفاوض معه من جديد حول الاستمرارية من عدمها؟!! فهلاّ فعلنا ذلك؟ طبعاً إلى حدِّ الآن لم نفعل إلا العراقيل والشروط المنفرة، وكلما ضاقت بنا السبل نرجع لتطبيق نصيحة سميرة توفيق ببيع الجمل بما حمل، وننظر أيضاً في بيع النعجة والحمل، وندخل برغبة منا في النفق المظلم، ونحن كمواطنين لا نلوم جلالة السلطان قابوس المعظم -حفظه الله وشافاه وأمد في عمره وأبقاه- لأننا كنا نتابع خطبهُ وتوجيهاتهُ الساميةُ إلى المسؤولين والمواطنين، فعندما كان يحذر من نضوب النفط فإنه لم يقل ذلك بمحض الصدفة، وإنما لرؤية وبصيرة نافذتين مستشرفة المستقبل، فلماذا لم يعمل على ذلك وقت الرخاء وفيض الدخل الكبير؟! وكانت لنا تجربة قاسية في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، ذلك عندما انخفض سعر البرميل من النفط إلى 8 دولارات!!!
لكن من كان بيدهم فعل الشيء البديل، لم يفعلوا شيئاً يذكر!! وعندما وقع الفأس على الرأس عام 2014م وانخفض سعر النفط مرة أخرى، وبعد ضياع نحو ثلاثين عاماً منذ الأزمة الأولى، وذلك في الجمود والخذلان، فنتفاجأ بأنَّ حيلة المسؤول هي جيب المواطن، والإثقال بالرسوم والضرائب على الشركات الصغيرة والمتوسطة، ثم نرجع اليوم لبيع الأصول، كالشركات الحكومية التي بنيت بأموالنا الوطنية، ثم التخلي طوعاً للحيتان عن مشاركاتهم في المنتجعات المربحة، والعقارات ذات العائد المالي المحرز.. إننا لا نريد بيعاً لمكتسبات النهضة، ولا للأراضي العُمانية، نعم للتأجير والاستثمار الوطني، وحتى الأجنبي، بشروط لا تمس بالسيادة، فلا تبيعون الخنجر والمحزم فهما يُمثلان السيادة والكرامة والأمن، ولا تخافوا علينا من جوع أو فرقة فنحن أمة معصومة، ونحن شعب قوي صبور ذو حكمة وروية، فما نحتاجه منكم الاحترام والشفافية والوضوح.
حفظ الله صاحب الجلالة، وأنعم عليه بالصحة والعافية.. إنه سميع مجيب الدعاء.