الشراكة المُجتمعية

حاتم الطائي

◄ بلادنا تزخر بنماذج وطنية رائدة في جانب المسؤولية الاجتماعية والعمل الإنساني

◄ مشاركة القطاع الخاص في التنمية مسؤولية واجبة وليست تطوعا أو عطاءً

◄ مشروعات المسؤولية الاجتماعية منجزات تنموية تؤكد تكاتف المُجتمع

 

تشرفتُ قبل يومين بالحصول على جائزة التميُّز الدولية في مجال الشراكة المجتمعية التي يمنحها "الملتقى الدولي للسفراء الأمميين للشراكة المُجتمعية" بدولة الكويت الشقيقة، ولم أكن وحدي الذي حصل على هذه الجائزة، بل رافقني المُكرَّم الشيخ علي بن ناصر المحروقي عضو مجلس الدولة، والشيخ عبدالله بن سالم الرواس رئيس المؤسسة الدولية للتنمية المُستدامة.. إلى جانب تكريم عدد من النماذج العُمانية الرائدة في مجال المسؤولية الاجتماعية، وكانت على رأسهم الفاضلة زهرة العوفية الحاصلة على جائزة السُّلطان قابوس في العمل التطوعي عام 2017 عن مشروعها المتميز "محو أمية أبناء قريتي مسؤوليتي".

ويعنيني في هذا السياق أن أُسلط الضوء على فكرة رئيسية تتمحور حول أهمية المُنجز الوطني الذي يُنفذه المواطنون؛ إذ إنِّ ما تقوم به تلك النماذج الوطنية أمثال العوفية وآخرين كُثر لا يتسع المقام لذكرهم، يُمثل ليس فقط حافزاً على العطاء وخدمة المجتمع داخل السلطنة، بل يتحول إلى نبراس مضيء يُنير الطريق لكل ساعٍ إلى الخير على المستوى الإقليمي والعالمي، ويكون بمثابة البوصلة التي تُحدد وجهة الآخرين على درب العمل الإنساني التطوعي، والذي يمثل أحد أبعاد المسؤولية المُجتمعية؛ سواء للأفراد أو المؤسسات.

وإذا ما نظرنا إلى تاريخ العمل الإنساني في عُماننا الغالية، نجد أنَّه حافل بالنماذج التي خلدت اسمها بحروف من نور، فأجدادنا مارسوا المسؤولية الاجتماعية حتى قبل أن يتم بلورة هذا المصطلح مؤخرًا، وكانوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.. وممن أود أن أذكرهم بالاسم في هذا المقام الفاضلة رحيمة المسافر (أم سارة) والتي أسست جمعية الرحمة، بعد سنوات من العمل الإنساني والمُجتمعي، وتحول الفريق الذي كانت تقوده إلى جمعية مُشهرة لها أنشطة مُتميزة وفريدة، ولم تتوقف هذه الشخصية العُمانية الفذة عند حدود العمل الإنساني في صورته الروتينية، بل سعت بكل جهدها إلى تنظيم العمل التطوعي في ولاية السيب بدعم من نساء وشباب الولاية، ونجحت في بناء نموذج للعمل التطوعي المُنظم.

إنَّ لكل فرد أو مُؤسسة مسؤولية تجاه وطنه، ليس فقط أن يعمل بجد واجتهاد وأن يساهم في تطور مسيرة النماء، بل هناك شق آخر يتنافس فيه المتنافسون؛ ألا وهو العمل داخل المُجتمع، دون توجيه من أحد أو انتظار لشكر أو تكريم. أتحدثُ هنا عن المسؤولية الاجتماعية في معناها الواسع الذي يشمل مُختلف أوجه العمل الاجتماعي، سواء كان تطوعياً على مستوى الأفراد، أو مؤسساتيا منظمًا من قبل الشركات في القطاع الخاص أو العام.

وعندما نتطرق إلى المسؤولية الاجتماعية فلا يُمكننا إغفال الجهود المُقدرة المنتشرة في مجتمعنا المُتماسك بطبعه المتآلف بفطرته والمُحب للخير بغريزته الإنسانية السامية. ولذا وجدنا أنَّه بعد تشكل مفهوم ومصطلح الشراكة المجتمعية أو المسؤولية الاجتماعية في عصرنا هذا، تسابقت مؤسسات وأفراد على دعم قطاع المسؤولية الاجتماعية، ولقد كان لجريدة الرؤية إسهام في هذا المضمار، حيث أطلقنا- من منطلق "إعلام المُبادرات"- المُنتدى العماني للشراكة والمسؤولية الاجتماعية، ونجح هذا المنتدى في أن يُؤطر لميثاق وطني للمسؤولية الاجتماعية في دورته الأولى، ثم أكد المُنتدى في دورته الثانية أنَّ المسؤولية الاجتماعية تمثل التزاماً وطنياً يعمل على دعم التنمية المستدامة، بينما خرجت الدورة الثالثة للمنتدى بمسودة الأولويات المجتمعية، لتكون بمثابة خارطة طريق يسترشد بها جميع المساهمون في تنفيذ مشاريع المسؤولية الاجتماعية.

ومع تطور المفهوم وتنوع النقاشات حوله، تبلورت رؤية مُعاصرة أخرى لمجال المسؤولية الاجتماعية، وانعكاسته على أرض الواقع، فلم تعد جهود المسؤولية الاجتماعية تقتصر فقط على تنفيذ مشاريع تطوعية أو منح تبرعات إلى طلاب أو أسر مُستحقة، بل تحولت إلى مشاريع تنموية تعكس بصمات وطنية عديدة في مختلف المجالات. فهناك من المؤسسات من ينفذ مشروعات تُقدم خدمات متنوعة للمُجتمع، مثل تجهيز مستشفى بأكمله، أو بناء متنزه أو مشروع ترفيهي للفئات الخاصة، وهناك مشروعات خدمية أخرى تُطلقها مؤسسات القطاع الخاص تأكيدا لدورها المجتمعي. وقد زاد هذا الدور المجتمعي للمؤسسات في ظل ما تواجه الدولة من تحديات تفرض على الجميع الإسهام في مسيرة التنمية الشاملة، ولذلك نُؤكد على الدوام في كل المحافل، أنَّه رغم ما تحقق من منجزات ونجاحات على صعيد المسؤولية الاجتماعية، إلا أنَّ الطريق لا تزال طويلة أمام إشراك جميع المؤسسات والشركات في مشاريع المسؤولية الاجتماعية، وكُلنا أمل بأن يتطور هذا القطاع، وأن تعزز فيه الجوانب التنظيمية، بما يضمن تحقيق أعلى النتائج المرجوة. وقد أحسنت بعض الشركات عندما أطلقت مؤسسات تنموية منبثقة عنها، تقوم بالدور التنموي المأمول، ويتم تخصيص الميزانيات السنوية لها، بما يعينها على تنفيذ مشروعات حقيقية تخدم أعدادا كبيرة في المجتمعات المحلية التي تعمل فيها. لكن الآمال تتعاظم بأن يتزايد عدد مثل هذه المؤسسات، إذ لا يزال العدد الأكبر منها ينتمي إلى قطاع النفط والغاز، في حين أنَّ قطاعات مثل المصارف أو الشركات الكبرى لا يزال أداؤها في المسؤولية الاجتماعية دون مستوى الطموح، ولذا فإنِّنا نحث هذه المؤسسات على بذل المزيد من الجهود وتخصيص بنود في ميزانيتها السنوية لضمان الالتزام الحقيقي والفعَّال بمشروعات تنموية وخدمية في كل الولايات.

ويبقى القول.. إنَّ المسؤولية الاجتماعية واجب إنساني ومسؤولية وطنية تنبع من الوعي الجمعي لكل من يعيش على تراب هذا الوطن المُقدس، وإن مشروعات المسؤولية الاجتماعية لا ينبغي أن يُنظر إليها على أنَّها جهود تسويقية أو دعائية لمؤسسة ما، بل هي مُنجزات تنموية تؤكد تكاتف المُجتمع وتلاحم مؤسساته مع أفراده، بما يُترجم المفهوم الحقيقي للشراكة القائمة على المسؤولية الاجتماعية، وبما يُعلي من القيم الإنسانية النبيلة وتوفير الحياة الكريمة لجميع البشر.