غاندي.. العنف واللاعنف

 

أحمد الرحبي

بالرغم من أنَّ مجال تطبيق أفكار غاندي ما فتئ يتوسع كثيرًا حالياً، حيث إنَّ اسم غاندي في كل مكان على شفاه من يتحدون نظامًا سياسياً يُقصي الأغلبية الساحقة من الشعب ونظامًا اقتصادياً يسرق مستقبلها، خاصة مع ظهور الربيع العربي وحركات المُقاومة اللاعنفية حول العالم، لكن بالرغم من ذلك نجد على مستوى الهند"لا يملك أي من الأحزاب السياسية أي ادعاء سليم بوصفها ورثة غاندي أخلاقيا" حسبما يقول أشهر كتاب سيرته الذاتية؛ "راماتشاندرا جها"وذلك بسبب الفساد المُذهل، وتوارث السلالات للعمل السياسي، والفرقة الدينية، إذ يبدو أنَّ تأثيره فقد (بمرور الزمن) تناغمه مع السياقات السياسية الهندية السائدة؛ رغم أنَّ السياسيين كثيرا ما يستغلون نغمة الحنين إلى غاندي، أما على المستوى العالمي فإنَّ ما قدمه المهاتما غاندي حول مفهوم الاحتجاج السلمي تمَّ استقباله في كثير من الأحيان بشكل مغلوط، وتمَّ اختزاله في جزئية معينة أخلت بالصورة الحقيقية لغاندي، جزئية تركزت حول اللاعنف الذي يساوي الهروب والانسحاب من المُواجهة، والمغفرة والتساهل المفرط أمام إساءة الخصم؛ فلقد قدم غاندي بالاحتجاج السلمي إلهاماً لعدد لا يحصى من الناس في العالم؛ حيث أسس غاندي ما عُرف في عالم السياسية بـ"المقاومة السلمية" أو فلسفة اللاعنف (الساتياراها)، وهي مجموعة من المبادئ تقوم على أسس دينية وسياسية واقتصادية في آن واحد مُلخصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، ذلك اللاعنف الذي يوضحه غاندي في كتاباته: .. من واجب كل مؤمن بفلسفة (الساتياراها)  أن يحرص على ألا يسمح بالدعوة إلى الجبن باسم اللاعنف.

وتهدف طريقته إلى إلحاق الهزيمة بالمحتل عن طريق الوعي الكامل والعميق بالخطر المحدق وتكوين قوة قادرة على مُواجهة هذا الخطر باللاعنف.

 وعلى ما يبدو فإنَّ المهاتما غاندي قد اختزل في طريقته للمقاومة بشكل يتطابق بين اسمه واللاعنف؛ بالرغم من أنَّ فكره وممارسته هما أكثر تعقيدا وتناقضا مما توحي به هذه الصيغة المختصرة والمموهة؛ فمقارنة بالفكرة الأصلية، يظهر غاندي على أنه قديس غريب الأطوار من عالم آخر لا يُمكن أن يؤذي ذبابة، ويبدو كأنه لا يستطيع حتى لو كان ميالاً لذلك كما يقول نورمان فنكلستاين.

ففي كتابه ..ماذا يقول غاندي؟ عن اللاعنف والمقاومة والشجاعة.. يحاول الباحث والمناضل نورمان فنكلستاين، أن يستعيد صورة غاندي الذي تنوسي أو مُحي ذكره إلى حد كبير، على حد قوله، ويشير المؤلف في كتابه، والذي يؤكد في بدايته، بأنَّ المهاتما غاندي نادرا ما يقرأ، إلى مجموعة أعمال غاندي في مكتبة جامعية بحثية أمريكية راسخة، التي لم يسبق أن أستعير إلا مجلد واحد من أصل حوالي 100 مجلد يراوح حجم كل واحد منها 500 صفحة، من تركة غاندي. 

ويضيف المؤلف لقد كان غاندي الحقيقي هو فعلا قديسا ورجلا غريب الأطوار من عالم آخر، لكنه كان –أيضًا- من أدهى العارفين بألاعيب السياسة، بحيث يستطيع أن يسبر أفضل من أي من معاصريه مكامن القوة لدى شعبه وخصومه وحدودها، موضحاً بأنَّ غاندي الحقيقي يكره العنف، لكنه كان يكره الجبن أكثر من العنف، وإذا تعذر على أتباعه أن يجدوا في دواخلهم ما يقوون به على المقاومة اللاعنفية، كان يحثهم عندها على استجماع شجاعتهم لرد الصاع لمن يعتدي عليهم أو يحط من قدرهم. ويوضح نورمان فنكلستاين أنه   بقدر ما كان غاندي يستنكر العنف، لم يكن يُعارضه دون تحفظ، فلم يكن يصنف عنفا المقاومة بالقوة للأوضاع المستحيلة؛ (امرأة تذود مغتصبا بيديها العاريتين، ورجل أعزل يقاوم التعذيب على يد عصابة، وقوات الدفاع البولندية في مواجهة العدوان النازي) ففي تقدير غاندي، يضيف المؤلف، إن هذا اللجوء إلى القوة رمزي وغريزي إلى حد كبير، قريب من ..مقاومة قط لفأر..

ويورد المؤلف على لسان غاندي ما يؤكد بأن العنف هو خيار ضروري ومهم لدى المهاتما غاندي، فعندما لا يكون هناك خيار إلا بين الجبن والعنف، أنصح بالعنف كما يقول غاندي، ولذلك، عندما سألني ابني الأكبر عمَّا كان ينبغي عليه أن يفعل لو كان حاضرا عند الاعتداء عليَّ بشكل كاد يفضي إلى هلاكي عام 1908، وما إذا كان عليه الفرار ورؤيتي أقتل، أم كان عليه استخدام قوته البدنية والدفاع عني، وهو ما كان يقدر عليه ويرغب فيه للدفاع عني، قلت له: إن واجبه كان هو الدفاع عني ولو باستخدام العنف، يضيف غاندي ومن هنا... أنا أدعو إلى تدرب من يؤمنون بأسلوب العنف على الأسلحة، مؤكدًا أن الأفضل أن تلجأ الهند إلى السلاح دفاعاً عن شرفها على أن تصبح أو تظل تقف بجبن شاهدة عديمة الحيلة على عارها، موضحاً أنه يعتقد أن اللاعنف متفوق بشكل لا حد له على العنف، وأن الصفح أكثر رجولة من العقاب... لكن الإحجام عن ممارسة العنف لا يكون صفحاً إلا عندما تكون هناك القدرة على إيقاع العقاب؛ ولا معنى له عندما يدعيه مخلوق عديم الحيلة، يصعب تصور صفح فأر عن قط عندما يسمح له بأن يقطعه إربا، يضيف غاندي، إن أرنبا يفر من كلب ليس غير عنيف بشكل خاص، فهو يرتجف لمرأى الكلب ويفر طلباً للحياة ذاتها.