صيد الخاطر وواردات الأفكار

 

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

 

التقاء النفس والذهن مع الفكرة في طريق العلم، لا يقل عن لقاء الأحبة بعد طول فراق، يأخذ كل من الآخر بقدر ما يعطيه، فتبرز الفكرة واضحة جلية مفيدة في الواقع، ويضيف العقل إلى رصيده المعرفي أفكارا، ويفتح ٱفاقا؛ وهو لقاء كأنما هما في عالم الغيب على ميعاد، وبعد أن جد كلاهما في البحث عن الآخر زمنا طال أم قصر، وقد عز اللقاء، كما صوره الهادي آدم حين قال:

أغدا ألقاك؟ ياخوف فؤادي من غدي

                                     طال شوقي واحتراقي في انتظار الموعدِ

//

 

أما التكلف، فيجعل الأفكار باهتة غير مؤثرة، تأتي مبتسرة أو منقوصة، غير ناصجة، وهذا – عموما - ما يسمى بصيد الخاطر، أو قيد الفكرة، ويأتي ذلك من ملكة التفكر والتدبر والربط بين الأحداث وكثرة الاطلاع والقراءة، وإعمال ملكة العقل في الاستنتاج واستخلاص النتائج.

ثم يزيد العقل ثراء ومعرفة كلما أمعن في المطالعة والتعلم، وإنتاج الأفكار؛ وهذا بخلاف العقل الحافظ أو الناقل، وهو ما أخبر عن مثله النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله" فرُبَّ مُبلِّغٍ أوعى من سامعٍ، أو ربَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه". ففرّق بين الواعي والسامع، أو بين الناقل والفاقه. وقد برز من من صحابته - صلى الله عليه وسلم -، الحافظ والفاقه، والعاقل والعالم، وهو لا ينقص من قدر أحد الفريقين.

ومن الوسائل المعينة على شحذ العقل، وصقل الأفكار، كثرة السؤال وإعمال التدبر، والاجتهاد في إيجاد أكثر من إجابة، وطرح الحلول البديلة، وإثراء العقل البحثي.

وفي القرٱن نجد هذه الصور متكررة؛ مما يعني الإلحاح القرٱني في التنبيه على أهميتها وإلفات العقل إليها، فنجد قوله"أفلا يتدبرون" "أفلا تعقلون" "لعلمه الذين يستنبطونه منهم" "قلوب لا يفقهون بها" "إقرأ" "فاعلم" "ليتفقهوا في الدين" "عباده العلماء" "الذين أوتوا العلم" "اعلموا" "أولوا العلم ...".

عالم الأفكار، عالم لا حدود له، يطوف به العقل الفضولي محلقا كما نطوف النحلة بين الأزهار والأشجار، ويقطف منها نهما كما تنهل النحلة من رحائقه، ويرشف كما ترشف، ويهيم ويغيب، ويصول ويجول، ويتيه بين السكرة والفكرة، والواقع والخيال، والحقيقة والغيب، والملك والملكوت، والأرض والسماء..

ومن جميل لفتات الإمام الشعراوي في قوله: "أفلم يسيروا"، أن قال: "هناك من يستطيع السير بقوة جسده، ومن يستطيع السير بقوة عقله"، والمعلوم أن العقل يمكن أن يبلغ آفاقا ويجوب رحابا لا تستطيع الأجسام ولا الوسائل أن تبلغها، ولذا فالدعوة مناطها الأول (الفكر) فيما مرت به أحوال الأمم في الأرض وما ضرب لهم من المثل المعتبر، والذي لا يمكن أن يقف عليه إلا ذو عقل وبصيرة.

ويأتي السؤال: من أين تأتي واردات الأفكار؟ هل هي من إنتاج العقل، أم هي كمُسماها واردات غيبية؟!! وإذا كانت من إنتاج العقل، فما الذي يمنع باقي العقول أن تنتج أفكارا؟!! وإذا كانت واردات، فما الذي يمنعها أن تطوف على كل العقول فتصبح عرضة للأفكار كما تفعل غيرها؟

لا شك أن طاقة العقل هي طاقة منتجة كغيرها من طاقات الألات: البدنية ، والميكانيكية، والكهربية، وهو ما يؤكد وحدة عمل المنظومة الكونية، ونظم سيرها من الفضاء الكوني إلى الأرض إلى الإنسان والذرات؛ يختلف أداء العقل المنتج وما يصرف له من روح الإلهام التي تختص به دون غيره، مما يجعل نتاجه الفكري (العلمي والأدبي) يختلف عن مثيله من أقرانه، وما يميزه عمن هم دونه أو فوقه.

لكن خوض العقل غمار التعلم والاكتساب المعرفي هو بداية الطريق، وهو طريق دونه فناء الأعمار، وجهد الليل والنهار، والبذل من راحة النفس والبدن، والزهد في مباهج الحياة ومتع الشباب؛ ثم تحليق العقل في بحار الفكر؛ هو أول خطوات التفتق الذهني والفتح الفكري، والاستعداد لاستقبال واردات الفكر ومنح العقل.

ثم من طور إلى طور، ومن فتح إلى فتح يصّعد الإنسان في ملكوت العلم، ويؤتى من ثمار القنص وعطايا الفكر ما يهز كوامن نفسه، ويستفز نهم العلم لديه أن يستمد مما في الغيب ويستزيد، ولا يخبو هذا النهم، ولا يفتر هذا الشغف إلا أن يفنى العمر، ولم يقض من لذة المعرفة وطره، ولم تقر عينه.

وقد يبلد العقل فيقعد عما أريد له من جادة البحث والفهم، ويهبط في مدارك الإنسانية حتى يصير أقرب إلى ما دونها، حين يغفل عن هذه المنحة المتحوف بها دون غيره من المخلوقات، فيركن إلى الدعة، ويسكن إلى فتور الروح وضعف الهمة، وثبط السعي فيحرم ما كان أولى به أن يرفع في درجاته، ويتخلى عما أسند إليه من حقيقة الخلق واستخلاف الكون.

وقد يغتر العقل حتى يتخطى مواطن اضطراره، ويجتاز طور فطرته، كما قال العارف (ابن عطاء الله) "إلهي.. حققني بحقيقة القرب منك، وأوقفني عند مواقف اضطراري"، وإن لم يقف.. فقد تخطى طوره، واجتاز قدره، ولم يبق إلا أن ينتظر أن يحاط بثمره، أو يحترق بإعصار فيه نار..

الاستئناس بصحبة العقل، ومدارسة الفكر، ومطالعة العلم، وملازمة الكتب وانتظار واردات الفكر هي منحة لا تعادلها من عطاءات الحياة منحة، بل تربو على الدنيا بأثرها، إذا كان يحدوها في ذلك الأنس بالحق، والاهتداء بمنهج ما فوق العقل، والاستغناء به عمن دونه، فمنه وإليه مبدأ العلم ومنتهاه.

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك