اللغة العربية وتشكيل الوعي العربي

 

محمد عبد العظيم العجمي| مصر

 

هل يمكن أن تفقد اللغة العربية رونقها وبهاءها وقدرتها التاريخية والعلمية، أو يتراجع دورها الأدبي والثقافي من خلال هذا المد اللغوي الذي بدأ يغزو أرضها، من جراء الحملات المتوالية داخليا وخارجيا للحد من انتشارها، مع عوامل التمدد الحضاري المغايرة التي تفرض ذاتها على من هم واقعون في جاذبية فلك الحضارة المهيمنة؟

يطرح البعض تصورا على الساحة الثقافية حول "هل يمكن أن تندثر اللغة العربية علميا وعمليا؟"، وهل يتقلص دور اللغة حتى تبقى مختزلة كلغة (للقرآن) والإنشاء والأدب والشعر؟!! أم تستمر كمحتوى وعيي وثقافي وعلمي وتقني؟

وباستعراض البعد التاريخي للترابط بين هذه اللغة والجنس البشري فضلا عن العربي، تتبين هذه العلاقة المعقدة  بينهما؛ ليست بعلاقة لسان، أو مفردات كلامية وفقط، كما ترتبط الشعوب بلغاتها فتتطور المفردات واللهجة وتتحور الألفاظ تدريجيا حتى تنبثق منها لغة أخرى، أو لهجة تتحول إلى لغة جديدة تدريجيا، كما حدث مع اللاتينية، وما انبثق عنها من لغات، وكما يحدث تدريجيا مع (اللغة الإنجليزية) وما نرى من تحور لها في اللكنة الأمريكية والكندية والشعوب الناطقة بها.

فهل تصمد اللغة العربية أمام رياح التغريب والتجريف، القادمة من هجوم الحضارات ومن خطط التغييب الوعيي الممنهجة التي تعمل ليل نهار على تغييب الهوية العربية برمتها، بيد أبناءها وأعداءها؛ وقد غدا النهم الحضاري والثقافي حاملا للواء التغريب ليضرب الذكر صفحا عن اللغة الأصيلة التي تجاهد مفرداتها الصمود والتكيف، ونحت الكلمات التي ليست من جلدتها لاحتواء هذه الواردات المفاهيمية التي لم تعهدها وليست من بنية ثقافتها الأصلية، لكن فرضتها دواعي الحضارة والتعليم والثقافة.

لكن.. يبقى هذا البعد غير البشري الكامن بين أعماق هذه اللغة ومفرداتها، الممتد معها هذه القرون الطويلة والذي أبى أن تنفصم عنه، أو ينفصل عنها مهما تكاتفت الجهود البشرية لعمل ذلك؛ وبسببه، فلم يعد يسري على هذه اللغة قوانين غيرها من لغات البشر من احتمالية الاندثار أو التواري أو التراجع مع أفول شمس حضارتها ، إنما تبقى لها هذه الهيمنة التعبدية التي تطال مشارق الأرض ومغاربها، طوعا أو كرها، والتي تدين بها قارات ومجتمعات وأغلبيات وأقليات في طول الأرض وعرضها.

هذا الامتداد الاستراتيجي الذي صنعته هذه اللغة على هذا البساط الجغرافي الشاسع من أطراف الأرض في تفاصيل الزمان والمكان، يحدوها في هذه الرحلة التاريخية الجغرافية هذا الكتاب الكريم العربي (قرآنا عربيا غير ذي عوج."فصلت")، (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون. "يوسف") الذي وسعت مفرداتها آياته ومعانيه وتشريعه.. فجاءت طوعا له، فسمت به، وقرأ بكلماتها، وتعهد ربه بحفظه وحفظها معه حتى نهاية الزمان والمكان.. كما تحدوها هذه الشريعة (الإسلامية) بعباداتها ومعاملاتها التي بلغت أطراف الأرض لا تقام هذه الشريعة في واد أو قطر أو حضر أو مدر إلا بكلمات هذه اللغة ، ولا يقبل تعبدها إلا من خلال مفرداتها.

جاءت هذه اللغة تجاوزا للزمان والمكان والمفردات العادية إلى معنى نفسي وشرعي وديني بالإضافة إلى اللسان الناطق، والوعي الفاقه المتبادل بين أفرادها، والوعاء التاريخي والثقافي الذي لا يخلق ولا يبلى على كثرة الرد والممارسة والاختلاط والواردات ، وإن حملت هذه  الواردات في طياتها عبق الحضارة والتغلب الثقافي والقوة المادية والعسكرية، وجاءت بعدّها وعتادها إلى بلاد العربية تحاول أن تقضم من بسطتها أو تنال من رونقها وبهاءها، أو تحط من حظها .. فلتوقف إذن إن استطاعت هذا المد اللغوي العربي الذي يغزو بلادها أناء الليل وأطراف النهار، أو فلتوقف دراسات علوم العربية (الأكاديمية) في بلادها، وجامعاتها، ومكتباتها، ومؤلفاتها التاريخية التي تربو إلى الملايين..

ولتوئد أيضا في بلادها علوم الاستشراق وتاريخها وأساتذته وعلماءه ــ بما لهم وما عليهم ــ تجاه الشرق العربي، وما يبنى عليه من سياسات وتوجهات فكرية حتى الآن، وهذا الارتباط النفسي بين كثير من الدارسيين الغربيين واللغة العربية، حتى أقيمت لها جامعات ومعاهد ودرسات تمنح أعلى الشهادات اللغوية العلمية من بلادهم، وحتى أصبحت الثقافة العربية جزءا أصيلا من الثقافة (الأكاديمية) الغربية، وقد كانت قبل ثقافة شعبية يتغنى بها شبابهم ويختالون بها على أقرانهم في أوج ازدهار حضارة العرب في الغرب.

لقد استطاعت العربية بهذه القاعدة النورانية" كل من تحدث العربية فهو عربي "وإن لم يصح الحديث، فقد ثبت المعنى، وحدث أن قفزت من مجرد لسان ناطق إلى هوية وجنس، وبالتالي تجاوزت الحد اللساني اللغوي الإقليمي إلى امتداد عبر الأرض، فصبغت بهذه الهوية كثير من الأقطار التي لم يعرف تاريخها العربية، كبعض دول الشمال الإفريقي والقرن الإفريقي وبعض دول القارة الآسيوية، ثم زحفت من خلال هذا المفهوم لتفتح كثيرا من الأقطار وإن لم تستطع أن تسمهم بالعربية، إلا أنها اكتسبت من خلال هؤلاء الناطقين ــ خاصة في الغرب وآسيا ــ اكتسبت هذا الظهير اللغوي الديني ،والذي قد يعد في حال النشاط العربي لاستثماره (ظهيرا استراتيجيا)، تجاه كثير من القضايا المحورية العربية (القدس وفلسطين كمثال) من خلال هذا التواصل الإعلامي، وحملات التوعية تجاه هذه القضايا المفصلية العربية.

أما معضلة تعريب كثير من العلوم الحديثة فليست معضلة لغوية بقدر ما هي عقلية وثقافية، وسياسية ترسخ لفرض اللغة الأجنبية صاحبة العلم وسيادتها، لكن احتواء اللغة للدراسات الأدبية والفلسفية الغربية وتعريبها خير دليل على طواعيتها ومرونتها ومقدرتها على الاستمرار العلمي والأكاديمي، لا تحتاج سوى تضافر جهود ومؤسسات متخصصة ترعى نظم التعريب في كل المجالات والعلمية والأدبية.

ليست العربية قاصرة على البعد الديني، كما في لغة الإنجيل المنفصلة عن لغة الشعوب، إنما هي وعاء ثقافي تاريخي كامل، ممتد بعلومه وثرائه العلمي والأدبي؛ وهي بناء أعمق وأقوى من أن تسري عليها بعض قوانين التحور الثقافي أو العلمي، أو يجرفه المد الحضاري.

 

 

 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك