د. عبدالله باحجاج
برزت فوق السطح ظاهرة ابتكار الغرامات والرسوم، وفرضها على المُواطنين قسرا.. وقد جاءت مُتزامنة مع مرحلة فرض ضرائب متصاعدة في سياق منظومة مُتكاملة مقرر تطبيقها بصرف النظر عن ارتفاع أسعار النفط، وهي تدخل في توجه إعادة النظر في هيكلية اقتصادنا الوطني، وتطبيقه – أي التوجه – يسير منذ منتصف عام 2017 وحتى الآن نحو خيار الجبايات، وهنا تكمن كبرى الإشكاليات المنتجة لمجموعة بنيات تحتية مُؤثرة على استقرار وتماسك المجتمع، مما يحتم التنبيه لها قبل أن تترسخ وتحل محل بنيات أنتجت الاستقرار والتماسك.
والذي يشغلنا كثيراً هذه الأيام، هو ظاهرة ابتكار الغرامات والرسوم، ففي كل فترة يتفاجأ المجتمع بقرارات مرتجلة لا تبنى على دراسات، ولا يبدو أنها تتناغم مؤسساتيا في إطار رؤية وطنية منضبطة ومحكمة النتائج، مما يجعلنا هنا نطرح التساؤل التالي: هل وراء ظاهرة ابتكار الغرامات والرسوم مرجعية قانونية تستند عليها أم هي تنم عن رغبات لسلطات حكومية ورسمية تُدير مرافق خدماتية لها درجة حساسية مرتفعة على المجتمع؟
الإشكالية التي نثيرها هنا، تدور حول مدى قانونية عملية فرض رسوم وغرامات أو زيادتها على الخدمات، وقد أصحبت ظاهرة جبائية عامة، فالقرارات تنهال على أدق تفاصيل مستلزمات حياتنا، كالصحة والماء والكهرباء والتعليم.. وهي من الخدمات الأساسية، واللافت أنه ليس لها أفق أو سقف محدد أو اتجاهات مختارة، فكل تفكير جبائي، يرى النور فورًا، من هنا نتساءل عن مدى قانونيتها؟ وموافقة وزارة المالية عليها- إن كانت هناك موافقة - تصبح قانونية؟
من حيث المبدأ، إن فرض أعباء مالية على المجتمع بأي صورة من الصور التالية: ضريبة رسوم غرامات إتاوات، ينبغي أن يكون ناجما عن قانون مكتمل الأركان والشروط، ويعرض على مجلس الشورى، وألا تكون العملية خارجة عن نطاق الشرعيات القانونية، وتدخلنا في سطوة السلطويات مهما كانت شرعية نواياها الجبائية.
وبالرجوع إلى المادة "10" من باب المبادئ الموجهة لسياسة الدولة، تنص صراحة " إن إنشاء الضرائب العامة وتعديلها وإلغاءها لا يكون إلا بقانون، ولا يعفى أحد من أدائها كلها أو بعضها إلا في الأحوال المبينة في القانون، ولا يجوز استحداث ضريبة أو رسم أو أي حق مهما كان نوعه بأثر رجعي.
فهل ينبغي أن يجري على الرسوم والغرامات ما يجري على الضرائب؟ إذا ما اعتبرنا أنَّ الرسوم والغرامات شأنها شأن الضرائب تدخل في منطوق الجبايات.. فيسري عليها فعلاً ما يسري على الضرائب، أي أن أية غرامة أو رسم ينبغي أن يكون بقانون وإلا فهي غير شرعية.
وهنا نجد أن هناك حاجة لطرح ثلاثة تساؤلات جوهرية وهي، هل تحديد مهلة "45" يومًا لقطع خدمة الماء في حال عدم الدفع قانونية؟ وهل كذلك تحديد غرامة "60" ريالا لإعادة الخدمة قانونية رغم سداد كامل المستحقات المالية؟ وإذا كانتا قانونيتان، هل تنسجمان مع مبدأ أصيل وأساسي في النظام الأساسي للدولة، ورد في مقدمة المادة "10" من النظام الأساسي، واعتبر من أهم موجهات سياسة الدولة، وهو إقامة نظام إداري سليم يكفل العدل والطمأنينة والمساواة بين المواطنين.. إلخ.
ويحتم تحليلنا الدستوري سالف الذكر، طرح التساؤل التالي، هل المسار الراهن لفرض الرسوم والغرامات بل والضرائب يُحقق العدل ويرسخ الطمأنينة للمجتمع؟ لن نتمكن من توضيح الانعكاسات الاجتماعية لظاهرة الرسوم والغرامات والضرائب من خلال البحث عن إجابات للتساؤل، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار تداعيات قضايا الباحثين عن عمل، والإقالات، وعدم استلام العاملين في القطاع الخاص لمرتباتهم لمدة تصل لخمسة أشهر، وخروج الآلاف من موظفي الخدمة المدنية سنويا للتقاعد، وحالات المتقاعدين في ظل غلاء المعيشة والرسوم والغرامات والضرائب.
وبنظرة سريعة في ذلك المشهد بتفاصيله في ضوء ضعف المرتبات العامة أصلاً، سيتضح لنا ما نحذر منه، وما ندعو إليه، فتلكم وقائع تمس جوهر بنيات الاستقرار التي أسست المجتمع منذ عام 1970 وتصنع بنيات حديثة لمجتمع جديد، من أهم سماته، الاستقلالية المنفتحة والمرنة العالية المستوى، وسهلة الجذب والتسييس.. في مرحلة إقليمية وعالمية قد أصبحت تركز على الأبعاد الديموغرافية للضغط على الأنظمة لتحقيق ما تعجز عنه الحروب والتوترات المُباشرة.
ينبغي أن يتوفر لدينا وعي كامل بحجم التحديات المسبقة لمثل تلكم التحولات وانعكاساتها الاجتماعية المباشرة وغير المباشرة ووفق مختلف الآجال الزمنية، فأفراد المجتمع لن يتحملوا طويلاً تبعات السياسة المالية "ضرائب ورسوم وغرامات" في ظل الوقائع سالفة الذكر، لذلك، ينبغي أن تكون هناك رؤية وطنية حاكمة لهذه السياسة، لا تركز فقط على البُعد المالي، وإنما تأخذ بعين الاعتبار انعكاساته الاجتماعية، خاصة على مجالي ديمومة الاستقرار والتماسك المجتمعيين، عوضاً عن أن يسمح لكل وزير أو شركة تُدير مرافق عمومية أن تفرض الرسوم والغرامات على المُجتمع.
ولو طبق تهديد القطع في أجل "45" بغرامة "60" ريالا، فمن المؤكد أننا سنشهد حالات اجتماعية مُتصاعدة ستحرم من خدمة الماء، مما قد يتولد عنها تداعيات سيكولوجية على الأسرة، وحجمها – أي التداعيات – سيتوقف على شمولية العجز في تأمين الخدمات الأساسية في ظل قصور المرتبات عن تغطيتها، وهنا سيفتح البعد المالي الذهنيات الاجتماعية، حيث سيقودها لتحولات بنيوية.. سيجعلها فاقدة الخيار والاختيار، ومنقادة للعروض المالية التي تقدم لها، لأنها غارقة أو ستغرق في مرحلة العجز، ومن اليقين القول من الآن، إننا بذلك نؤسس مجتمعًا جديداً يختلف شكلاً وجوهرًا عن المجتمع الذي تمَّ تأسيسه عام 1970، وهذا يدفعنا للقول صراحة إنَّ سياسة الغرامات والرسوم على وجه الخصوص والضرائب بصورة عامة، فيها درجة مخاطر اجتماعية مرتفعة وتصعيدها، مما يستوجب فعلاً تشكيل لجنة متخصصة لدراسة تأثيراتها وإقرارها أو إلغاؤها حسب نتائج الدراسة، لأنها تستهدف محيطا اجتماعيا تفاعليا مثقلا بمجموعة كبيرة من الأعباء والأثقال، فكيف نحمله فوق طاقته الضعيفة أصلاً؟