الصينية العودة

سالم بن نجيم البادي

دُعِيت إلى حفلة بصفتي مديرَ مؤسسة حكومية، كُنت نادرا ما أذهب إلى مثل هذه الحفلات؛ لنفوري من الصخب وزحام الناس والرسميات والتصنع، لكنَّ أبي ألحَّ عليَّ للذهاب من باب تقدير واحترام من وجَّهوا لي الدعوة.

ذهبتُ مُبكِّرا لقضاء بعض الحوائج في المدينة، ولمَّا انتهيت وقد بقي لدي بعض الوقت قبل بدء الحفلة، وصلت إلى مكان الحفل، واتجهت إلى الكراسي التي صُفَّت في ساحة واسعة، اخترتُ كرسيًّا وجلست عليه بعفوية، وأنا مُنشغل بهاتفي، غير مُبالٍ بمن حولي، وكانت المفاجأة عندما انقضَّ عليَّ أحد مُنظِّمي الحفلة يطردُني من ذلك الكرسي لأنه محجوز، الكرسي كان بعيدا عن المنصة الرئيسية التي فُرشت بفراش مختلف، ووضعت طاولة فاخرة زُيِّنت بباقات الورود لكبار القوم، أعرف ذلك جيدًا.. لا بأس، هذا النظام والبرتوكول والبرستيج، وما جرت عليه العادة.

قُمت عن طيب خاطر، وجلستُ على كرسي أبعد قليلا، لحقني الرجل وطردني، ذهبت إلى الكرسي الثالث الأبعد فالأبعد، طلب مني عدم الجلوس، شعرت بالإهانة البالغة أمام الحشود الغفيرة، استيقظتْ نفسي المُشَاكِسة والمُتمرِّدة، رفضت القيام بشدة لم يتركني حتى تدخل أحد زملائه، واحترت في تفسير تصرفاته تلك، لربما نظر إلى سِحنتي التي عبثتْ بها الأيام وشمس الجبال البعيدة حيث أسكن برفقة أغنامي و(جعدي) وناقتي في انسجام مع الطبيعة، ولعل الرجل كان مُتأثرا بثقافة الطبقية في المجتمع والفوارق الاجتماعية التي تأصَّلت وتأكَّدت من خلال توجيه الدعوات إلى الشيوخ والرشداء وأصحاب المناصب العليا، واستشارة هؤلاء في الأمور الجليلة، وعادة ما تُدرج أسماؤهم في المجالس واللجان المختلفة، وترسل إليهم الرسائل من مكتب الوالي، وهناك أعضاء مجلس الشورى وأعضاء مجلس الدولة وأعضاء المجلس البلدي، كل أولئك أكرِم بهم وأنعِم، يستحقون الحفاوة والتكريم والمزايا، ولا نحسدهم ونتمنى لهم الخير. غير أنَّ السؤال الذي أخذ يُلح عليَّ هو: هل يتم تغييب وتهميش أو حتى إقصاء عن قصد أو غير قصد دور المثقفين والشباب وأصحاب المواهب والمبادرات والأفكار الابداعية؟!

تلفَّتُ يمينا وشمالا أبحث عن الشاعر والكاتب والأديب، وحَمَلة الشهادات العليا والمثقفين، وأهل الإبداع، لا أدري إن كانوا هناك!! هو مجرد سؤال فجَّرته نوبة المشاكسة والتمرد، والتي اجتاحتني فجأة، وهي التي قادتني للهجوم للصينية الكبيرة جدًّا التي يجلس عليها عِيلَة القوم، جلست بينهم، أخذوا يتعازمون فيما بينهم على الأكل: كُل يا فلان، كلوا هبشوا وما توقفوا، ثم تجادلوا على من "يفقش" يفتح رأس الذبيحة، وهذه من العادات التي فيها تكريم لأصحاب المكانة الاجتماعية الراقية، ولمَّا لم يتفقوا، أمسك اثنان منهم بالرأس؛ أحدهم أمسك بالفك الأسفل والآخر بالفك الأعلى من الرأس، وهكذا حُلت المعضلة.

كُنت غريبًا بينهم وطفيلي، وعيناي تسترقان النظر إليهم، ولا تسألني: هل أكلت جيدا؟ لا. فقد شغلتني غُربتي بين القوم، وأسئلة تتزاحم في فكري ورغبتي الملحَّة في الخروج من المأزق الذي وضعت نفسي فيه.

وعليَّ أن اسجل هنا أنَّني أُكِن لرفاق الصينية العودة كل توقير لمكانتهم في المجتمع، لكنني آمل أن يحظى المثقف بمكانة لائقة في المجتمع، وأن يُبصر المواطن العادي أدوار ومهام المحافظ والوالي والشيخ والرشيد وعضو مجلس الشورى وعضو المجلس البلدي، وقد يحتاج إنجاز معاملة ما لتوقيع الشيخ؛ فتبحث عنه في بيته أو مزرعته او مقر عمله، وقد لا تجده، ثم توقيع آخر من الوالي، ولا أعلم ما الداعي لكل ذلك في زمن الحكومة الإلكترونية، وأخشى أن يكون ذلك بقايا من البيروقراطية والروتين الرتيب وتعقيدات تثقل كاهل المواطن البسيط، وتزيد من أعبائه، وتجعله حائرا بين جهات عدة إذا أراد تدبير شؤون حياته، ويعود إليَّ السؤال الذي أثاره تصرُّف الرجل تجاهي، وأحاول أن أعزي نفسي وأرد الاعتبار لها، فلا أجد سبيلا غير تغريدة في تويتر ومقالي هذا، والناس مقامات يا عزيزي، وعليَّ أن أكفَّ عن جلد ذاتي؛ لأنني اتَّبعت نصيحة والدي وذهبت إلى الحفل، وأنا لا أحمل جينة الشيوخ والرشداء، وعليَّ في المرة المقبلة أن أجلس في المكان الذي لا يثير حفيظة ذلك الرجل، وحتى لا يُقال إنَّني أطلب مجدا ليس لي، وأنني أرغب في تصدر المجالس وفي الصف الأول جنبا إلى جنب مع من هم أعلى منزلة، وأستجدي وأستعطف كبار القوم كي يُفسِحوا لي مكانا بينهم وقريبا من الصينية العودة.