وانطفأ سراج مصبح

 

 

عائشة بنت أحمد البلوشية

 

ماذا عساي أن أكتب؟ وماذا يمكنني أن أسرد؟ حتى أتمكن من أن أوفيك حق الرثاء، وحالي لا يختلف عن جميع من عرفك.

منذ أن عهدنا دنيا المدرسة وأحلام الطفولة وأنا وشقيقتي علياء في عهدة مصبح، فكل صباح يشرق ومصبح يبزغ مع شمسه ليأخذنا إلى المدرسة، ووصايا جدتي له بألا يذهب بنا يمنة أو يسرى، بل إلى المدرسة ومنها، وكبرنا وكبرت أحلامنا، ومصبح يبدأ يومه معنا بابتسامته الصباحية، وتزوجت كل منِّا وذهبنا مع الدنيا شرقًا وغرباً، وجاء دور إخوتنا ثم أبنائنا من بعدنا، ليستمر معهم أميناً عليهم محباً لهم، لنعود إلى العراقي دائمًا وهو كما هو لم يتغير، ضاحكاً بساماً وكأن صروف الدهر لا تلتفت له، وهو أبو العيال المحب لهم، يخرج اللقمة من فمه ليطعمها أحدهم لو طلبها، تطحنه الدنيا بثفالها بسبب متطلبات العيش، والالتزامات من حوله، لكنه لا يأبه لأنه يعمل ويعلم أنَّ رزق الله آت، ويُساعد هذا خلسة، ويُعين ذاك قدر استطاعته، وتغيب شمس كل يوم ويعود مصبح مشرقًا في اليوم التالي وكأن شيئاً لم يكن، إنه جزء أصيل لا يتجزأ من تفاصيل يومنا.

لم يخذل يوماً أحدا طلب منه خدمة، كانت إجابته دوماً (حاضر إن شاء الله)، ترافقه كلماته الطيبة وابتسامة محياه أينما ذهب، كان أقرب إلى والديه من بعضهما، يحبهما حبًا عظيماً، فماتت والدته بعد أن مرضت فترة ليست بالقصيرة، حاول أن يُيسر سبل حركتها في منزلها، يدللها ويخفف عنها وهن الكبر وسطوة المرض، وعند رحيلها أحسَّ كل من حوله وكأن الدنيا منذ حينها كسرته، فكان يحكي لنا عن شوقه لها، وصورتها لا تفارق بروفايل هاتفه، ونراه بأعيننا وهو يبر أباه ليخفف عنه ألم الفراق، لتمضي السنون سراعاً ويكون أول الأبناء لحاقاً بها، كان موته خفيفاً وعجيباً وسريعاً، أيام بسيطة لتهيئة أسرته وكل من أحبه بأنه مفارقهم، ليرحل عن دنيانا كالحلم.

ليلة بدأت ببروق تومض ورعود تدمدم، ليلة أن أنطفأ سراج مصبح، انهمرت رحمة السماء بأمر ربها، وجموع الذين حضروا مراسم الجنازة والدفن تلهج بصوت واحد (رحمك الله يا مصبح وغفر لك، وربط على قلب أبيك الذي أوهنه الكبر)، ترى كيف سيكون اليوم دون دخول مصبح من الباب على جدتي - أطال الله في عمرها-؟ وهي التي تعشق مناوشاته وجدالها معه على أبسط الأمور، ثم ينظر ألينا ضاحكاً وبطريقة عادل إمام يقول: "متعودة دايمًا".

 

 

توقيع:

"ما أبشع الرحيل عندما يباغتنا فجأة، وما أقبح العويل على من كان ديدنه الضحكة".