بلاد العقلاء

 

أمين دراوشة | أديب وكاتب فلسطيني

 

 

جاء بعد طول انتظار. هرول إلى الدنيا باكرا فلم يقض في بطن أمه سوى سبعة شهور، قذف به إلى الدنيا وهو ما يزال بحاجة إلى المزيد. أمضى شهرين في بيت زجاجي، يرعاه الأطباء باهتمام، وحنان الممرضات جعله قادرا على الاستمرار. صمد وقاوم وقاتل كل أنواع الفيروسات وهزمها.  

خرج من المستشفى، ولم يتجاوز وزنه وزن طائر صغير.

مرّت سنتان، نما كأجمل زهرة. عانى الكثير. وحتى الآن لم يستطع المشي. لكنه ما زال قادرا على الابتسام، وإخراج لسانه لكل بليد وكسول، فهو يضج بالحيوية والعنفوان كسمكة.

في المستشفى الحكومي، حيث ولد وترعرع. اضطررنا للعودة، وهذا ما كان:

الطبيب يراه خاملا كسولا، ليس كعادته، فيقول الطبيب: أحتاج صورة طبقية لتحديد الحالة. وبعد عمل الصورة غالية التكاليف، ألقى الطبيب، المعتدّ بنفسه، نظرة على الصورة وقال، وقد بانت على محياه ابتسامة الانتصار: كما توقعت، ليست هناك أية فائدة منه، فلا تضيعوا أموالكم هباء. ثم هرول إلى خارج الغرفة، حيث المرضى المتكدّسون، وأخذ بالصراخ: أنا لن أعمل بعد الآن، أنا لم أنم منذ ثلاثة أيام، أنا سأستقيل، أنا..

عند هذا الحدّ، حملت طفلي بعد أن أخذت الصورة غالية التكاليف، التي ما زالت معلّقة، وعدت أجر أذيال الخيبة والانكسار.

بعد هذه الحادثة الأليمة، قرّرت أن أصحب طفلي إلى الخارج، فالأطباء هناك أكثر رحمة.

رآه البروفيسور فرويد، الذي شرع يفحص كل جزء فيه، وكانت علامات الدهشة والحيرة ترتسم على وجهه، والاضطراب والارتباك يسيطران عليه. توجّست خيفة وصرخت بألم: ماذا هناك أيها الطبيب التعس؟ أحقا ما قاله ذاك الطبيب البغيض؟

طفق فرويد يضحك بشكل هستيري، ويشير بإصبعه إلى طفلي ويقول: إن طفلك مجنون، مجنون، مثلي تماما!

عدنا إلى أرض الوطن، وهبطنا إلى منزلنا كطائرين متحابين.

في اليوم التالي، عزمت على أن أقدم شكوى وأحصل على بعض الاستفسارات من دائرة العلاج. انطلقت، وعند المدخل قابلتني موظفة مهذبة، وقالت لي: توجه إلى الطابق الثاني حيث الموظفة المسئولة عن ذلك.

دلفت إلى الداخل:

- صباح الخير.

ولم تجب، قلت: أريد أن أسأل سؤالا واحدا إذا أمكن.

احتدّت وصرخت و ألقت عليّ سيلا من الشتائم، ثم قالت بتقزز: أنا لا أنظر إلى أية أوراق، أنا لا أجيب عن أية استفسارات قبل يوم السبت.

ابتسمت، ونزلت السلالم باحثا عن المدير، فاليوم هو السبت على أية حال.

وجدته يجلس على كرسيه المتحرك باعتزاز وأنفه. وما إن بدأت أتكلم، حتى نهض، وشرع يزمجر: معها حق.

قلت: كل ما طلبته إجابة عن سؤال لم أسأله بعد.

- ماذا تريد؟ لو كل مواطن يريد أن يسأل سؤالا، لامتلأ المبنى بالحيوانات. هنا يوجد نظام، وسيادتك ترغب في تضيع وقت الموظفين في أسئلة تافهة وسخيفة، حقا إنكم شعب من المتسولين والمتحذلقين. أنا مللت منكم، أنا متعب ومرهق، أنا لا أتلقى إلا راتبا صغيرا، أنا...

رجعت إلى بيتي، وأخذت ما يكفي من النقود، واشتريت تذاكر سفر.

بعد أيام كنت قد رحلت من بلاد العقلاء إلى بلاد المجانين.

بعد شهور، وبينما كنت ألقي محاضرة في إحدى الجامعات،  اتّصلت معلّمة الطفل، وهي تجهش بالبكاء قائلة: ابنك يا دكتور، صعد إلى أعلى شجرة السنديان. حاولنا بالترغيب والترهيب أن نجعله ينزل دون جدوى، وما زال يرفض الهبوط.

ضحكت وقلت لها: دعوه، فسيهبط حين يشعر بالحاجة إلى البحر.      

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك