ما جنته المدنيّة على السِّلم الاجتماعي (1)

 

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

 

لم نعرف قبل أن تقتحم هذه المدنية علينا ديارنا في النصف الثاني من القرن العشرين، لم نعرف هذا النوع من الصراع الطبقي الاجتماعي، والروح التنافسية بين الأفراد والأسر، وهذا التحاسد والتباغض والتدابر الذي ظهر من جراء المدنية التي فرضت علينا فرضا دونما اختيار منا، وقد نغَّصت علينا عيشنا البسيط فأحالته كدا وكدرا، وسلبت حياتنا الرتيبة القانعة بالقليل، والراضية من العيش بالكفاف مع سكون النفس وراحة البال وقرة العين في الأهل والولد .

فأين هذا التواصل والرضا الاجتماعي الذي كان يملأ جنبات النفوس والبيوت والدروب والحقول؟!! حيث كانت تطرب منه النفوس وترضى منه بما يرضى به أقرانها، ولا تتوق إلى شيء من رفاهية العيش إلا هذا الذي يُبنى على الجهد العفيف الشريف والعمل المثمر الدؤوب، والحركة البناءة العصامية التي لا تعرف الشغف ولا الجشع ولا الأثرة؛ إنما هي روح وثَّابة تتطلع إلى هذه النقلة الاجتماعية من خلال قنواتها الشرعية من (العلم، وروح العمل، والكدح الحلال).

هذه الصورة البسيطة للعيشة الراضية التي لا تعرف الكد إلا في دروبه الشرعية، ولا تعرف التنافسية إلا الشريف منها، ولا تجنح إلى الظلم الاجتماعي أو الاستغلال والاحتكار والغنى السريع (الفهلوي)، الذي لا يتثبَّت ليُحِلَّ حلالا أو يُحرِّمُ حراما، إنما يبتلع كل ما يصادفه من حقه أو حق غيره ليملأ دناءة نفسه وما هي بممتلئة، ويرضي غرور طمعه وما هو عنه براض؛ بل (إِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)، وعيشا كدا ، وسقما لا ينتهي.

حين لم تكن هذه الطغوة المدنية، لم تكن كذلك الفروق الطبقية التي تعلن مظاهر الغنى والفقر، صارخة ليل نهار، بل كانت جُلّ ما تراه من مظاهر الغنى، منزلا متميزا، و لباس أنيقًا، و مركبًا لا يخطف الأبصار.. وهو من بسطة العيش المقبولة لا المتكلفة المختالة التي تُصعر خدها، وتثني عطفها، إنما كانت تنمُّ عن رضا نفسي، وأصل طيب، وغنى أصيل، من مصدر معلوم قادم من طين الأرض وخيرها، أو من تجارة مشروعة رابحة.

كانت الطبقة المتوسطة غالبة، وبسطتها العددية طاغية على مظاهر المجتمع الريفي أو العماليّ، ولا يكاد يبين أهل الترف فوارقهم، ولا يجهرون بها استفزازا - كما يحدث الآن -، وقد سدت فوارق الفقر تلك الروح الاجتماعية التكاملية التكافلية، التي كان يجد الفقراء منها في قرارة نفوسهم طمأنينة وثقة إلى حقوقهم في أموال الأغنياء، فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما يكسبون .

ثم فاجأتنا هذه المدنية رويدا في فترة انفتاح السبعينيات من القرن المنصرم، فخلخلت هذا النمط المستقر نسبيا من الهرم الاجتماعي وقفز إلى سطح الغنى أناس لم تعرف لهم هوية مسبقة من غنى موروث أو عمل أو علم مثمر، إنما كان هذا النموذج (الدخيل) على مجتمعنا، نموذج (الفهلوي).. وقد انهالت مع الانفتاح البضائع والسلع والترف، وتهافتت معه طبقات المجتمع تبحث عن هذا المارد السحري العجيب الذي يقدم لك الثراء على طبق من فضة سريع، بأقل جهد وأدنى مقومات سوى إجادة بعض الحركات البهلوانية في البيع والشراء والتدليس وتحسين القبيح.

ثم توارت هذه الحقبة، وتبعتها حقبة أخرى من التسعينيات التي ظهر فيها رجال الأعمال أصحاب القرى السياحية، وشركات المحمول، واستصلاح الأراضي (المزعوم)، والمدن الجديدة، والاستثمار العقاري، والاستيراد والتصدير، و..

وهذه الهجمة التكنولوجية المدنية التي جلَّت الفوارق الاجتماعية وسلطت عليها الأضواء - (فيلم المنسي أنموذجا) -، وعمَّقت هذه الهوة بين الطبقات؛ وخطب كل من الساسة والمستثمرين وِدَّ الآخر، وحدث هذا التزاوج غير الشرعي بين السلطة والثروة، وغضت الدولة الطرف عن هذا التعاون المشوب بالمصالح، وأعطت التسهيلات لرجال الأعمال، ومنحت لهم أراضي الدولة بثمن بخس، وتنامت في مقابلها أرصدة الساسة وأموالهم في البلاد وخارج البلاد، وتحول بعضهم إلى مستثمرين، كما تحول بعض رجال الأعمال إلى ساسة.. كعكة مقسمة وشعب مستباح!!

وهكذا.. كانت هذه الهجمة الأخيرة من القوة والسيطرة بما لم يدع مجالا للمجتمع وطبقاته للتفكير أو التروي أو التوقف للمحاسبة، إنما طغت في مقابل ذلك روح المنافسة والاستغناء، ولم يبق إلا البحث عن الوسيلة والسبيل الميسرة إلى ذلك، في حين تناقلت أمام أعين البسطاء السلع المترفة والتكنولوجيا التي تخطف الألباب والأبصار(الفول أتوماتيك، والهاتف النقّال، والميكرويف، والتكييف، وال L c d ، و... )، وأصبح الهم الشاغل: كيف نمتلك ما يمتلك الأغنياء إن لم يكن من الأموال فمن وسائل الرفاهية، وفتحت المعارض أبوابها لتقسيط سلع الرفاهية ميسرة للبسطاء، وصار الاحتراف في كيفية استنزاف هذه الدراهم المعدودة الشهرية من جيوب البسطاء إلى خزائن الأغنياء.

وتهافت البسطاء على التكنولوجيا كالفراش على النار (المطلوب منها وغير المطلوب، والضروري وغير الضروري)؛ بأقساط شهرية، تثقل الحمل وتجض المضجع؛ ثم أثقل الحمل ظهورهم إذ لم تعد الدخول التي تسد كفاف العيش تصلح مع عبء الرفاهية والتكنولوجيا، فتحول الموظفون والعمال والكادحون إلى عبيد (سخرة) يعملون ليل نهار ليسدوا هذه الفجوة من الأقساط والديون التي تراكمت نتيجة شراء أحدث موديلات الهواتف النقالة للأولاد حتى لا يحسوا بفوارق الطبقات، وجهاز العروسة الذي تنتهي أقساطه بالسجن أو بعد أن يعمر الأحفاد، والتابلت، واللاب توب، والثلاجة (32) قدم..

واستنفد الجسد المضنى المكبل بالأقساط، المحمل بالأثقال طاقته الحركية البشرية المعدة لعمر كامل، استنفدها تحت وطأة العمل المتواصل ليل نهار في سنين معدودة، ولم يبق منه إلا شبح يتهاوى بين الدروب يسير بطاقة الرياح، لم تسعفه الأيام حتى أهوت عليه الأمراض كوحش مفترس من كل حدب وصوب، ثم أسلم نفسه لقضائه بعد فترة من صراع المرض طالت أم قصرت، وخلف بعدها لهذه الأسرة البائسة سيلا من الديون الممتدة، ومعاشا لا يقوم بكفاف العيش، وثلة من الأولاد والزوجة مقطوعين من بصائص الآمال في مستقبل التعليم، محرومين من العائل، مخذولين من مشفق أو معين.. فلم يعد في هذا المجتمع المتصارع فائض للعطاء، أو مكانًا في قلب للرثاء، إنما الكل يدور في الرحى معصوب العينين مثقل المتن، مغيَّب العقل .

و(للحديث بقية).

تعليق عبر الفيس بوك