"الشورى".. رؤى سوسيولوجية جديدة

د. عزة القصابي

 بعيدا عن الطابع الرسمي الذي تزامن مع انتخابات مجلس الشورى للفترة التاسعة، فإننا سنتوقَّف عند الحراك الاجتماعي الذي عاشه المجتمع العماني، والذي حفل بالكثير من التيارات الفكرية التي يفترض أن يناقشها خبراء علم النفس والاجتماع، ويبحثون فيها كظاهرة اجتماعية رافقت الحراك السياسي في المجتمع العماني المعاصر خلال الفترة الانتخابية التاسعة.

لا يختلفُ اثنان على أنَّ الفرد لا ينفصل عن واقعيه السياسي والاجتماعي اللذين يحيطان به، كونه يعيش ضمن إطار يقترن بمجموعة من الأطر السوسيولوجية التي تشكل محيطه؛ لذا عندما يختار الناخبون من يُمثلهم في المنابر البرلمانية، فإنهم يتطلعون لحزمة من الحلول التي ستعالج معضلاتهم الاقتصادية، وتحقق طموحات الحياتية المبتغاة.

لقد برزت فئات مختلفة من المرشحين على اختلاف تخصصاتهم وتوجهاتهم، غير أن الشريحة الكُبرى منهم من دراسي الحقوق، الذين تسلحوا بالقوانين وحفظوها عن ظهر قلب، بل إن طائلة القانون امتدت لتطال غير المتخصصين من المرشحين، الذين نجدهم يتحدثون أيضا بلغة القانون، ومواده؛ في الوقت الذي كُنا نأمل أن يحدثونا فيه عن الذي سيقدمونه للمجتمع أو يتحدثون به عن التغيير القادم وفق المعايير الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحضارة... وهذا كان الأجدى بالاهتمام والمناقشة؛ فالمواطن البسيط لا يمتلك سوى معلومات بسيطة عن القوانين، التي يمكن إدراكها في ضوء ملامستها لواقعه، وهو بحاجه لمن يصنع التغيير بمصداقية أكبر، بعيدا عن النظريات المسيسة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

وخلال فترة الانتخابات والصراعات على مقاعد الشورى، انبثقت تيارات فكرية متباينة في توجهاتها؛ إحداها محافظ والآخر يعزف على وتيرة التحرر وضرورة التخلص من التبعيات المقترنة بالمحظورات التي عفى عليها الزمن. ولكن اللافت للنظر، أن نرى كل فئة تعبر عن رأيها دون خوف أو تستر خلف أقنعة الألقاب أو الأسماء الوهمية عند النشر؛ لذلك أصبح من الضروري، أن نتوقف وندرس المواقف والآراء الحرة، التي تحاول أن تقول كلمتها بدون قيود.

وعلى سبيل المثال، لقد انقسمَ المجتمع عند الحديث عن أهمية ارتداء المرشحة للحجاب؛ هناك من رأى أنه لا ضير أن تكون المرشحة بلا حجاب إذا كانت تمتلك كمًّا من القدرات والخبرات تتناسب مع مستواها العلمي والمهني؛ لذلك فإنَّ التركيز على المظهر العام والسلوكيات للمرشحة يأتي في ذيل الأوليات!

أما التيار الآخر من الناخبين، فهو يخالف التيار الأول، ويرى ضرورة ارتداء المرشحة للحجاب لتمثل نساء عمان على منبر الشورى. مُبرِّرين ذلك بأنَّه في حالة وجود مرشحة غير ملتزمة بالحجاب، فإنها ستكون نموذجا لكثير من السيدات اللاتي سوف يطالبن بخلع الحجاب مستقبلا. وبذلك فإن هذه الشريحة من الناس ترفض انفصال المرشحة عن واقعيها الاجتماعي والديني، ويؤكدون أهمية ارتداء المرشحة لزيّ العماني المحتشم.

وبين هذا وذاك، ظهرت فئة أخرى من المجتمع، محايدة للفئتين المتناقضتين، غير آبهة بجدوى الصراع بين التيارين المتضادين في التفكير والمبادئ اللذين يرتكزان عليها، واكتفت بالمراقبة عن بُعد!.. وهذه الشريحة انزوت وفضلت الاكتفاء بالمشاهدة دون تعليق، من باب أن فكرة الترشيح من عدمه لا تهمهم، وما الجدوى من وراء المرشحين وأتباعهم الذين يتصارعون من أجل الكراسي، ويختلفون في الآراء، والذين يعتبرون الوصول إلى قبة المجلس وسيلة لا غاية، لا تخدم مصالح الناس؟

وقامت وسائل التواصل الاجتماعي بدور مهم في رصد الحراك السياسي للمرشحين والمرشحات؛ حيث انقسم مستخدمو المنصات الاجتماعية إلى مشجعين، ومنتقدين، ومعلقين على تصريحات المرشحين! والبعض منهم تجرأ ليعبر عن رأيه مباشرة عبر تسجيلات ليوتيوبية. وأنه من اللافت للنظر خلال أربع عقود من عصر النهضة المباركة، وما رافقها من متغيرات وتحولات تنموية عاشتها البلاد، فإنه قلما ما نجد من يعبر عن رأيه في القضايا المجتمعية بهذه الجرأة والصراحة!

ونودُّ الإشارة إلى أنَّ اختلافَ طرق التفكر والتوجهات الحياتية، لا ينسحب على المجتمع العماني فحسب، بل جاء استكمالا لمنظومة من المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عاشتها معظم دول الخليج العربي، والتي شكلت مرحلة جديدة تقع بين عصرين، عصر ما قبل النفط، وما بعده.

 لقد شهدت المرحلة الأولى استقرارا نسبيا؛ كون هذه المرحلة تمثل مدخلا فكريا وثقافيا دون أن يظهر أثرها بشكل ملحوظ. أما المرحلة الثانية، فهي المرحلة التي نعيشها ونتجت عنها أجيال متباينة في التفكير والسلوكيات، البعض منهم عاش هذه المرحلة لفترة وجيزة، ولكن سرعان ما عاد ليتصالح مع واقعه، وبدت عليه ملامح التغيير مع احتفاظه بثوابت مجتمعه.

وفي المقابل، تأثرت شريحة من الناس بمدخلات التغيير القادمة من الآخر، وتسبب ذلك في ضياع حلقة التصالح مع الآخر؛ لذلك نجدهم يصرون على فرض لغة التغيير وتحاول الانسلاخ من ثوابت المجتمع العماني، وتؤكد هذه الفئة رؤى الانفتاح والتغيير، وهي تبحث عن لغة عصرية تكرس لغة التواصل مع الآخر.

ويُمكن القول إنَّ انتخابات مجلس الشورى أوجدت تيارات فكرية عديدة أسهمت في تنوع الرؤى، ومحاولة فهم الآخر، والتصالح معه. وأصبح جليا أن الغالبية العظمى من أفراد المجتمع يميلون إلى مواكبة المعاصرة، دون التعرض للثوابت والمبادئ والاجتماعية في نسيج المجتمع العماني، مثل الدين والعادات والتقاليد الاصيلة... وأساليب التفكير وطرق الحياة.

تعليق عبر الفيس بوك