حارة "المراغ"

منى المعولي | سلطنة عمان

حارة المراغ عروس شاطئ بركاء، عروس بهيئة أرملة، كم بدت لي حزينة في تجولي الأخير بين رملة البحر والأنقاض، قرية تتحقق فيها أساطير الرعب المسرودة سابقا، غدت مهجورة كبيت الأشباح، كئيبة تعاني فراق محبتها، قد يدبُّ الرعب في قلب الزائر الغريب، ولكنها دافئة تطوقنا نحن أبناء تربتها بذراع من الوجد والحنين، أعترف اعترافا غير مسبوق أني منذ هجرتها لم أعرف الحنين إلى أرض أخرى، ولم أستلذ عشق الأماكن، وبدت  لي بقاع العالم واحدة، ولم أعرف بعدها طعم أرق تغيير فراش المبيت، فالليالي غدت متشابهة متساوية وكأني أعيش الترحال واقعاً فاعتادت عليه مشاعري، يحدث أن تهاجر مشاعرنا والأجساد باقية في المكان ذاته، بخطوات متباطئة أصوب بصري بين زمنيين فأراني طفلة وأسمع أصوات ضحكات وزعيق ومشاغبات وساحل ممتد ممتلئ بالبشر، نساء ورجال وأطفال يمارسون هوايات تجمعهم، بين المهنة والتسلية، تخيط النساء كميم الرأس وتلعب أيدي الرجال بـ"الحواليس" أما الأولاد ففي عراك مستمر على الكرة، والبنات منقسمات بين لعبة "البيلوه" و"قفز الحبل"، ينتزعني من ذاكرتي المتخيلة صوت شخص يناديني حاملا أفكاري من ضجيج الذاكرة إلى صمت الواقع، يبدو أنه عرف ملامحي ولم تزل أثارٌ من سحنة طفولتي مرسومة على وجهي فتعرَّف عليّ، وأنا التي كنت بنصف حضور وبالكثير من الغياب، كان الساحل منقسما في تلك العصرية بين الأمتار تجد بعض الأوفياء الذين يهشون ضجرهم بالجلوس جماعات بين الأطلال، لم أهتم لحظتها لكوني الأنثى الوحيدة التي كانت تذرع المسافات بالقرب من جلساتهم التجمعية المتقاربة، فكنت أسلم بحرارة وكانت شفاههم سعيدة مبتسمة، ترحب بي كالعائدة من سفر طويل  حطت أحمالها على وطن الاستقرار، عرفت كيف أن أبناء قرانا جزء من دمنا وتجمعنا كروموزومات التربة الواحدة، تضاهي تلك الكروموزومات المكتسبة من القرابة البيولوجية، لم تزل "المراغ" تحتفظ بروح عفوية تفوح من رملتها الطينية الرملية الصخرية الحجرية الحديدية المتشكلة من عوامل هدم منازلها والمتناثر فتات ذاكرتها على انبساط المكان، لن أمسك العصا لأرسم حرف اسمي كما كنت أفعل فقد وجدت كلي محفور في ثناياها، حارة بأكملها تتجول داخلي بسكانها وبذكرياتها وبحرها وتجاربها وتبعثرها، وبشارعها المرتقب إقامته منذ خمسة عشر عاما، أرض دفنت فيها أسنان اللبن وأظافر طفولتي وكان أغلى المدفونين فيها جسد أبي ودفنت فيها حكايا كثيرة بين القلق والفرح والحزن والألم وشقاوات صغيرة وصندوق يحمل كل هذا أزرعه في روحي يرتوي شغفا وينمو مع تكاثر الأيام.

تعليق عبر الفيس بوك