عبيدلي العبيدلي
ما أن يثار نقاش حول موضوع من مواضيع الثورة الصناعية الرابعة، إلا وينتهي بالتوقف عند ما أصبح يطلق عليه الترقيم، أو الرقمنة، وهي الترجمة العربية لكلمة (Digitization)، و(Digitalization)، و(Digital Transformation). ورغم وجود بعض الفروقات الطفيفة بين الواحد منهما والآخر، لكننا بتنا نقرأ، أو نسمع، أو نشاهد، استخداماتهم بشكل متبادل، تعبيرا عن تطابقهما في نظر بعض المستخدمين. بل وجدنا بعضا من ينحت مقطعا مشتركا بينهم كأن يقول "الثورة الرابعة والتحول الرقمي".
يتناول الكاتب أبوبكر سلطان، في المجلة الشهرية "القافلة"، هذه المسألة بالبحث في مقالة مطولة، منوهاً إلى ما " ثار من اختلاف حول تعريف المصطلحات الإنجليزية (Digitalization, Digitization, Digital Transformation)، ففي بعض المجالات، كان التمييز بينهم واضحاً، بينما ظهر التباس في مجالات أخرى. ولعله من الممكن ترجمة Digitization إلى (رقمنة) بوزن (فعللة). أما Digitalization فيمكن ترجمته إلى (ترقيمية) على وزن (تفعيلية). وخلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة، لوحظ انخفاض متوسط استعمال مصطلح (الترقيمية)، بينما ازداد استعمال مصطلح (الرقمنة)، ثم تصاعد استعمال مصطلح (التحوُّل الرقمي) في الأعوام الأخيرة".
ثم يلاحظ سلطان أنَّ الضجيج حول الرقمنة قد ارتفع "مع الانتشار الواسع للمجتمع المعلوماتي الثالث (المجتمع الأول كان عصر الطباعة منذ أكثر من خمسمئة عام، ثم الثاني أثناء الحرب العالمية الثانية). وبات كل فرد من هذا المجتمع يمتلك هاتفاً جوالاً، و70% من سكانه مشتركون في النطاق العريض المتنقل، ونصفهم يستخدمون إنترنت وحاسبات. وبحلول العام المقبل 2020م، يُتوقع أن يكون لدى 40% من المؤسسات اختصاصيو ذكاء اصطناعي، وسيجرب 70% منهم الذكاء الاصطناعي، وستستخدمه 25% من المؤسسـات في الإنتاج. وبعد ذلك بسنتيــن (2022م)، ستختبر 70% من الشركات تقنيــات غامرة، وستنتج "بلوكتشين" 3.1 تريليون دولار أمريكي بحلول 2030م. وبفضل انتشار المجتمع المعلوماتي والبيانات الضخمة، أمكن استثمار البيانات والعمليات "المُرقمنـة" في تغذيــة أنظمـة الذكــاء الاصطناعي لتقوم بدورها الاقتصادي".
ولتقريب الصورة من ذهنية القارئ، يستحق الأمر مسألة مهمة أخرى يتناولها باحثون ألمان بارزون، يشيرون إلى ثلاثة أخطاء شائعة حول الرقمنة في مجال العمل.
فوفقاً لطروحات بروفيسور الاقتصاد الدولي في جامعة هاينريش هاينة دوسلدورف ينس زوديكوم، نجده يخالف على شكل واضح، من يروجون لمقولة أن الروبوت يسرق من الإنسان فرص العمل المتاحة أمامه. وبطبيعة الحال تندرج استخدامات الروبوتات في عمليات التحول الرقمي، دون أن يعني ذلك بروز ذلك التناقض، الذي ينفيه زوديكوم كما شاهدنا، بين فرص العمل وتطوير الروبوتات في نطاق الاستجابة لمتطلبات التحول الرقمي، على طريق الولوج في الثورة الرابعة.
ويعزز زوديكوم مقولته هذه بالاستعانة، ببعض الأرقام التي تؤكد أن "الحقائق تشير إلى عكس هذا الكلام"، معتمدا على أبحاثة التي تكشف أن "تأثيرات الروبوت الصناعي على سوق العمل الألمانية. من 1994 حتى 2014، حيث تم تركيب 131000 روبوت في ألمانيا. وقد قاد هذا إلى تراجع فرص العمل بدوام كامل بمقدار حوالي 275000 فرصة عمل. إلا أنَّ هذه الخسائر في فرص العمل تم تعويضها بالكامل من خلال إيجاد فرص عمل جديدة، خارج إطار الصناعة، وبشكل رئيسي في مجال الخدمات القريبة من الصناعة. أي أنَّ استخدام الروبوت قد أدى إلى إعادة هيكلة التشغيل وفرص العمل، ولكنه لم يؤثر في العدد الإجمالي لفرص العمل".
أما القول بأنَّ الآلات باتت بديلا للإنسان، وأنها تفكر بدلا عن البشر. ومن ثم فستكون هي البديل المنطقي الذي يستبدل التفكير الإنساني والذي هو بطبيعة الحال جزء مهم من مخططات التحول الرقمي. هذا الأمر ما يزال "بعيدا كل البعد عن الذكاء البشري"، فحسب تصريحات أحد كبار موظفي شركة غوغل العملاقة ذات الباع الطويل في مسيرة التحول الرقمي، ينس ريدمار. ليس صحيحًا، كما يقول ريدمار، ذلك "أن الذكاء الصناعي يتولى اليوم تأدية العديد من المهام في مجال الأعمال: ولكن من خلال الآلات وأنظمة الويب تصبح العمليات الإنتاجية أفضل، والأعمال التي تتطلب جهدا عضليا أقل وأبسط. رغم ذلك يتوجب على الإنسان دومًا أن يتخذ القرار، حول مكان وكيفية استخدام الذكاء الصناعي".
أما المسألة الثالثة فهي التي تقول إن "استخدام وسائل التواصل الاجتماعي يسبب الغباء"، فحسب البروفيسور ملاحظات، عالم النفس وأستاذ ذو كرسي في التواصل الإعلامي لدى جامعة يوليوس ماكسيميليان في فورتسبورغ، ماركوس آبل فإن "السيناريوهات المرعبة حول الآثار القاتلة لوسائل التواصل الاجتماعي على مستويات أداء التلاميذ في المدارس غير مبررة إطلاقًا. فقد قام بالتعاون مع علماء وباحثين في جامعات فورتسبورغ وبامبيرغ بجمع 59 دراسة من مختلف أنحاء العالم حول العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والأداء المدرسي، وقام بتحليلها وتقييمها. ولم يمكن التوصل إلى برهان تجريبيي عملي لنظرية أن الاستخدام المكثف لوسائل سناب شات، أو فيسبوك يمكن أن يؤثر سلباً على أداء التلاميذ".
وهناك من يذهب إلى القول إنه "لا يوجد معنى مشترك للرقمنة على مستوى العالم. ويذهب إلى ذلك القول، معتمدا على استطلاع شمل 1160 من المديرين والتنفيذيين وأعضاء مجالس الإدارات لمجموعة واسعة من الشركات والقطاعات في مناطق جغرافية مختلفة، شارك جميعهم في مبادرات رقمية بطريقة أو بأخرى. وكان من المثير للاهتمام اختلاف مفهوم الرقمنة من شركة لأخرى. كما لم يكن من السهل تقسيم المبادرات الرقمية إلى 20 فئة".
ولم يعد الترقيم محصورا في تحويل المواد المخزنة من صورها التقليدية إلى تلك المرقمة، بل تجاوز الأمر ذلك، حيث أصبح الإنسان يتحاشى التخزين التقليدي ويلجأ إلى المرقم، لتحسين المطابقة بين الأصل والمُعالج، ولتسريع عملية الاسترجاع، بعد توسيع الطاقة التخزينية.
وهذا ما دفع نحو الثورة الرابعة، التي أصبحت معتمدة كل الاعتماد على الترقيم، في مختلف الأنشطة الإنسانية، بما فيها تلك التي لا تتجاوز أنشطة التسلية والمتعة.