صديقي المكيافيلي!

 

صبري الموجي| برلين

صحفي بجريدة الأهرام المصرية

 

تعرف عليه في إحدي المواصلات العامة، لمس فيه جدية عبَّر عنها حديثُه المُتزن، الذي جاء - تمويها - مشفوعا بنص قرآني أو حديث نبوي أو أثر لأحد السلف يؤكد كلامه ويدعم موقفه، فقال في نفسه فرِحا وجدتُه ، ذلك الصديق الذي أخذتُ أفتش عنه سنوات عديدة في دنيا كثُر فيها الغش والخداع، ولبس الكلُ فيها أقنعة البراءة والطهر؛ ليخفوا عن الناس حقيقة أنفسهم التي تتضاءل أمامها حيل الثعالب وتسلل الأفاعي، توطدت بينهما العلاقة، التي تقمص فيها ذلك الصديق الوافد دور الوفاء، فأسلم له صاحبه القياد، وصار مُنتصحا بأمره لايري في الدنيا غيره ولا يسمع صوتا إلا صوته، وأعطاه من ماله ووقته بغير حساب وبلا ضامن، ولما استوفي منه غرضه وسلبه ماله إلا قليلا لاذ هاربا وترك صديقه الساذج يعاني غصة الفقر ولوعة الغدر من صديق ظنه أخاه.

صورة حقيقية تُبرز حقيقة أن الخل الوفي من رابع المستحيلات، وهذا لا يعني انعدام معني الصداقة وذبح مفهوم الأخوة، ولكنها دعوة للحذر في اختيار الصديق، وعدم الانخداع بالمظاهر، التي يُتقنها المحترفون من أصحاب الأغراض والمصالح، الذين هم في الحقيقة أشرس من الذئاب الضارية وأفتك من السباع العادية.

والصداقة مأخوذة من الصدق، وحقا قولُ القائل: صديقُك من صدَقَك، لا من صدَّقك، أي صديقك الحقيقي هو من كان صادقا معك فيما يقول، فلا يشيد لك قصورا من الوهم وتصبح تجدها أكواخا من قش، بل هو من يقول لك الحق ولو كان مُرا.

وعلاقة المرء بأخيه يجب ألا يعتريها إسرافٌ في مدح أو ذم، بل لابد أن تُزينها الوسطية في الحب والبغض، لهذا ورد في الأثر: أحبب حبيبك هونا ما، عسي أن يكون بغيضك يوما ما، وابغض بغيضك هونا ما عسي أن يكون حبيبك يوما ما.

ومُبرر ذلك أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يُقلبها كيف يشاء، فربما صار الصديق عدوا والعدو صديقا.

وقد كان أبو بكر نموذجا للصداقة المخلصة التي خلت من الغرض وبرئت من المصلحة؛ إذ كانت غايته العظمي رضا الله - عزَّ وجلَّ - ورضا صديقه محمد صلي الله عليه وسلم؛ لهذا لقَّبه رسول الله بلقب (الصدِّيق) الذي سيظل مفخرة له إلا أن تقوم الساعة، إذ ألبسه هذا النوط، ومنحه ذلك الوسام من لا ينطق عن الهوي، إن هو إلا وحيٌ يُوحي.

وإذا كان الشاعر قد قال: ما أكثر الأصحاب حين نعدهم ولكنهم عند النائبات قليل، فإن الأمر يتطلب التحري والتفتيش المتوالي عن الصديق المخلص، الذي تسلم صداقته بأخيه من النفعية والمصلحة، ومتي وجده المرء لابد أن يعض عليه بالنواجذ، ولا يقف له عند كل صغيرة؛ لأنه لا يوجد من سلم من كل العيوب والنقائص، بل يكفيك من صديقك أن ترجح كفة محاسنه عن كفة عيوبه، أما أن تنشدَ فيه ملكا مطهرا خاليا من كل عيب فهذا هو المحال، وردد دائما قول القائل: وكفي بالمرء نبلا أن تعد معايبه.

ومقتضي الكلام: أن نبحث عن ذلك الصديق الوفي، وألا نُسرف في حبه أو بغضه، ونفر من الصديق (المكيافيلي) مثل فرارنا من الأسد.

تعليق عبر الفيس بوك