التنمر

 

فاطمة الحارثي

 

معظم الأمور إن لم يكن جميعها تبدأ صغيرة، إن تم تغذيتها نمت وازدهرت وإن تم قمعها انكمشت.  يحتمل هذا الفكر في الحياة الخير والشر على السواء.

عند قراءة القرارات الكثيرة ومتابعة مستجدات القوانين وتطبيقاتها، كثيرا ما يُساورني سؤال أسباب الحاجة إلى هذه القوانين وأخص القوانين المعنية بضبط الأخلاق والسلوك، لأعود بالجواب إنها ضرورية لبرهنة الامتثال لدى المنظمات العالمية التي ننتمي إليها كدولة حريصة على وجود قوانين وقائية وتطبيقية لسيادة العدل والمساواة، وليس بالضرورة لأن ثمة أوضاع ألزمت تطبيق هذه القوانين على حالات بدأت بالظهور على رقعة أرضنا الطيبة بسبب النمو السكاني المتنوع والمتزايد.

لأعود إلى أزمة الانفصال الفكري وتعدد المفاهيم بين أجيالنا الراهنة، بالإيعاز إلى غزو التكنولوجيا وتدخلها في تربية أطفالنا ناهيك عن المتغيرات التي حصلت قبلها بقليل لبعض أبنائنا الذين تأثروا سلبا في سلوكيات تبنوها أثناء إكمال تعليمهم خارجًا. وأمر الانفتاح الذي لله الحمد إلى الآن ذو أثر سلبي بسيط لأصالة ما غرزه الأوفياء من أهلنا من قيم ومبادئ طيبة.

مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، زحام الحياة، الإغراءات، شهوات النفس، أمور كثيرة لا يسع المقال لذكرها تتذرع بها القلوب المريضة وإن كانوا قلة لكنهم مؤثرين في طغيانهم وسوء سلوكهم، دون وازع من ضمير، لأمر زائل يأتي أحدهم ليتنمر ويحتقر آخر دون تدبر لقول الله تعالى (إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ۗ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44))الأنفال، وما في الأمر من ابتلاء قد ينجح فيه أحدهم أو يخسر. يقيناً ليس ثمة من هو أفضل من آخر أو أعلى منه مكانة سواء على الأرض أو عند الله، إلا بحكم الله وحده، وهذا أمر غيبي لا نعلمه ولا نستطيع أن ندركه، لا يستطيع أياً كان أن يتعالى على أحد أو أن يتذرع بأسباب كيفما كانت ليؤذي نفس حُكم الله قاضٍ فيها نفسيا كان أم جسديا، والمناصب ليست امتيازات بقدر ما هي ابتلاء، وليست تفضيل بقدر ما هي فتنة أنزلها الله على أصحاب القرار. فكيف يكون حال هذا الشخص إن طغى واستغل ونشر الفتن والأكاذيب ليصل أو يبقى في منصب.

إن التنمر نوع قاسٍ من الظلم فهو سلوك يتمثل في إذلال الآخر وتشويهه نفسيا وفكريا، وأيضاً يُعرف بأنّه إيذاء معنوي من قبل شخص أو عدة أشخاص بالقول أو الفعل لنيل مكتسب أو فرض سيطرة أو قوة على هيئة تهديد مبطن أو تحقير أو نشر أكاذيب بصورة متكررة وغير شرعية، وقد يتمادى البعض إلى الإساءة الجسدية مثل التحرش أو الضرب أو السخرية أو الازعاج المتعمد أو التمييز.

قرأت مؤخرًا عن حالة تعرضت للتنمر وانتهى بها الحال إلى غرفة العناية، وبحكم شغفي بالناس وأحوالهم، سمعت من كثيرين ورأيت أكثر، حالات مشابهة من حولي في روتين يومي وحوار عارض مع الصديقات والمعارف من كل مكان، والغالب لا يجرؤ على أخذ موقف رادع خوفا من "انتقام" المتنمر واحتقان الموقف في معتقد أن ذلك قد يؤثر على وضعه في العمل أو يخلق عداوات حزبية.

أخي وأختي عمان أرض طيبة ويجب أن تبقى كذلك، فبكل صدق إن كنت تتعرض للتنمر لن يكون حالك أسوأ إذا قمت بردع مرضى ومهوسي القوة والتجبر، ففي جميع الأحوال أنت تعاني، أقلها لتكن المعاناة في نضال شريف تردع فيه سلوكيات دخيلة على مجتمعنا من أجل نفسك ومن حولك وأبنائك الذين ستنال منهم تلك العادات الدخيلة إن تمَّ السكوت عليها، اخرج من قوقعتك وتكلم. عليك العمل أما الرزق والترقيات فهي من الله وحده مالك الملك، فلا تتدخل في تدبير الخالق للأرزاق وقم بواجبك كخليفة الله في الأرض على أكمل وجه مستطاع،  إن الله عادل وأنت يد الله على الأرض، إن الله يرى وأنت الناطق على الأرض، إن الله يسمع وأنت النفس المبادرة الناشرة لحكمه لا تكن من أصحاب (كانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)) المائدة. ناهيك عن الأضرار المادية الجمة على المؤسسات والشركات وما يترتب عليه عند هيمنة مثل هذه السلوكيات وغيرها على أداء الشركات ونموها.  -وأقول ربما هذا أحد أسباب بقائنا كدول نامية-.  

 

رسالة

تشير الدراسات الحديثة إلى أن أكثر من 19% من الموظفين يتعرضون للتنمر يومياً وأن 20% شهودا سلبيين ويمثل مديرو العمل وعلى درجتهم حوالي 60% من المتنمرين. وإن كان التنمر منطقة رمادية يصعب في كثير من الأحيان إثباته إلا أن بعض الدول حفظت حقوق الإنسان وسنت قوانين رادعة لهذه السلوكيات والسلطنة من أوائل تلك الدول، وعلى المتضرر قيد وحفظ وتوثيق الأدلة إن وجدت واستشارة المختصين لمعرفة حقوقه وما له وما عليه،  عُمان النقاء والحكمة وعلينا جميعاً العمل بكل ما لدينا من قدرة على إبقاء قيمنا ومبادئنا راسخة لنا وللقادم من الأجيال.