عبيدلي العبيدلي
منذ العام 2010، دخلت المنطقة العربية ما اختلف على تسميته، في وقت لاحق، حيث اعتبره البعض "ربيعاً عربيًا"، ثم عادت نسبة من هؤلاء فوصفته بـ "الخريف العربي"، وجاء بعد الإثنين من أطلق عليه صفة "الحراك العربي". دون الحاجة للدخول في متاهات التسميات أو التوصيف، ونكتفي بالوقوف عندما كان وما يزال مشتركاً في كل تلك الظاهرة العربية، التي اختلفت أشكالها، كما اختلفت النهايات التي آلت لها، وما يزال يسيطر على الشعارات التي ترفعها، وأفضل دليل على صحة ما نذهب إليه ما نشاهده اليوم حيًا في لبنان والعراق. ذلك المشترك هو الخروج المفاجئ للشارع العربي مطالباً بوقف "الفساد"، المستشري في جسد السلطات العربية.
ولوعدنا قليلاً نحو الوراء وتوقفنا عند الخمسينات من القرن الماضي، فسوف نكتشف أن أحد الأسباب الرئيسة لثورة "الضباط الأحرار"، التي قادها حينها في مصر الضابط الشاب جمال عبد الناصر، كان "محاربة الفساد"، الذي كشفت عن وجهه القبيح صفقة "الأسلحة الفاسدة" المشهورة.
ثم تتابعت، ولا نقول الثورات العربية، بل الانقلابات العسكرية العربية التي لم تكف عن رفع شعار محاربة الفساد في رأس قائمة الأهداف التي تسعى لتحقيقها، لكنها وجدت نفسها، ثورة يوليو 1952، في مراحل لاحقة فريسة سهلة له. فعادت من جديد "تجتر شعارا"، ادعت أنها نجحت في تحقيقه.
وقبل الوصول إلى تعريف الفساد، لابد من كشف التعريفات القاصرة التي تطلق على الفساد. فالكثير منا يرى أن الفساد هو عبارة عن مجموعة من "أعمال غير نزيهة يقوم بها الأشخاص الذين يشغلون مناصب في السلطة، مثل المديرين، والمسؤولين الحكوميين. وغيرهم، وذلك لتحقيق مكاسب خاصة، ومن الأمثلة على ظواهر الفساد إعطاء وقبول الرشاوى".
في ذلك التعريف الكثير من الصحة لكنه في حقيقة الأمر، ليس ذلك سوى قطعة الثلج الطافية التي تخفي تحتها جبل الجليد، فالفساد بمعناه العام الشامل، بل وربما الفلسفي، يعود عميقًا في تاريخ الفكر الإنساني، وتتسع دائرته كي تشمل ما هو أبعد مما يذهب له ذلك التعريف الصحيح، لكنه الناقص.
ومن أوائل الفلاسفة الذين تناولوا موضوعة الفساد، كان، وكما تورد نهلة الجمزاوي، " هو الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس، "في (كتابه الكون والفساد) تحدث أرسطو في ذلك الكتاب عن الفساد المادي لمكونات الكون، وهو معنى غير بعيد عن معنى الفساد كمصطلح متداول ففي أساسه البطلان وعدم الصلاحية ... ". وقد قام بترجمة ذلك الكتاب الأستاذ أحمد لطفي السيد. وقد عالج ما جاء في ذلك الكتاب وأضاف عليه، الفيلسوف الإسلامي اللامع ابن رشد في كتابه "جوامع الكون والفساد".
وفي سياق مُعالجتها لمسألة الفساد، تثير الجمزاوي سؤالا في غاية الأهمية هو "هل الفساد ينطلق من القاعدة إلى الرأس؟ هل القاعدة الفاسدة تفرز رأس هرم فاسد، أم أنَّ القيادة الفاسدة تعمل على خلخلة القاعدة وإضعافها من أجل ترسيخ فسادها وتكريسه كضمانة لبقائها في سدة الحكم؟".
ثم تتابعت الاجتهادات حتى وصلت اليوم إلى نشوء منظمات، مثل منظمات الشفافية، ليس هناك ما تكشف عنه سوى مظاهر الفساد المتفشي في دول العالم، ووضعت تلك المنظمة معايير صارمة لقياس درجة اقتراب أو ابتعاد دولة ما عن انتشار الفساد في دوائرها.
ووفقاً لما يرد في تقارير منظمات دولية أخرى مثل تلك التي تصدر عن "صندوق النقد الدولي"، أصبح "الفساد، رسمياً أحد أكبر وأخطر المشاكل التي تواجه العالم أجمع". بل تذهب مثل تلك التقارير إلى أبعد من ذلك حين تعترف، كما يُشير الكاتب فارس هاني التركي، إلى أنَّ "الفساد الذي يختلف تعريفه حسب الزمان والمكان والأعراف مما يضيف صعوبة أكبر في التعامل معه، ففي العديد من الثقافات تعتبر الإكرامية واجباً في العرف ودليلاً على الكرم، بينما في ثقافات أخرى تعتبر نوعاً من أنواع الفساد، وقد يجرمها القانون في بعض الدول. وكذلك ينطبق الأمر على الواسطة، ففي بعض الثقافات هي من النخوة والشهامة، بينما ثقافات أخرى تعتبرها أكمل مثال على الفساد".
بل إنَّ المثير للدهشة، هو ما يتحدث عنه الكاتب نور الدين العلوي، الذي يكشف أنه "عندما استلمت حكومات الربيع العربي دولها بالانتخابات المثالية تقريبًا توهمت الانتصار على النظام القديم وهو حلم مشروع لكنها سقطت بسرعة قياسية. لقد أربك الفساد حركتها. فلم تعرف من أي مدخل تبدأ الإصلاح. هذه الحكومات دخلت بمثاليتها الأخلاقية والآيديولوجية متوهمة أنَّ الوعظ الديني وإكبار فكرة الوطن والتقدم والتحرر كافية لكي يسقط الفساد وتنعتق الشعوب وتشرع في بناء دول قوية ومتحكمة في أوضاعها (الصدفة وحدها جعلت حكومتي الربيع العربي المدنيتين تحت سيطرة إسلاميين)".
وكما جاء في وبحسب تقرير منظمة الشفافية العالمية، "فإن الفساد السياسي يعتبر التحدي الرئيس في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالرغم من جهود الحكومات في مكافحة الفساد".
كل هذا يؤكد ما ذهب إليه الكاتب عمر مقدادي الذي اعتبر أن" الفساد عمومًا ظاهرة مركبة ومعقدة، تشمل الاختلالات التي تمس الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقيمي والأخلاقي في المجتمع، والذي يحتاج إلى تضافر الجهود لمعالجته والتخلص منه، ويبقى الفساد بشتى أطيافه أحد معاول الهدم التي تواجه عمليات التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ...".
وفي السياق ذاته، وفي أطروحتها الجامعية لنيل درجة الدكتوراه، ترى الباحثة مجبور فازية ذلك الارتباط الوثيق بين الفساد والإنسان، "حيث عرفته المجتمعات الإنسانية في كل العصور، ويعتبر الفساد ظاهرة عالمية تعاني منها كل المجتمعات مهما بلغت من مراحل التطور، ولكن بدرجات مختلفة، فليس هناك دولة فاضلة، حيث نجد دائماً نسبة من الفساد في مختلف هياكل ومؤسسات الدولة الواحدة، يهدد الديمقراطية وسيادة القانون. فالفساد يُعد من أكبر وأهم المشاكل التي يعاني منها النظام العالمي، نظرا للتحولات والمتغيرات المستجدة على الساحة الدولية. ولما للفساد من مخاطر على الدول الكبرى وعلى الاقتصاد العالمي تصاعدت الآراء التي تدعو لتبني الحكم الراشد في التسيير، هذا ما يستوجب إعادة النظر في دور الدولة وهياكلها، بالتالي إصلاح ذاتها".