التوجيه المعنوي يحتفي بالمثقف العسكري

د. عزة القصابية

 

تُعد الثقافة ركيزة أساسية في تاريخ الحضارة الإنسانية، وهي تسعى إلى الارتقاء بالفكر الإنساني وتوسيع مداركه الإبداعية التي تميزه عن الآخر وفق منظومة ثقافية متنوعة.

وهناك مفاهيم كثيرة ومطاطة للثقافة يصعب القبض على أطرافها؛ كونها تشمل عناصر لا حصر لها؛ تشمل: المساقات الأدبية والفكرية والعلوم، وكذلك الأمثال الشعبية والأهازيج والتقاليد والعادات، وأساليب الحياة، وثقافة التعامل والتواصل والتعاون والتعارف بين أفراد المجتمع، كما تضاف إليها "الفنون" بأنواعها المختلفة.

ويتبادر للأذهان عند الحديث عن الثقافة والفنون كلُّ ما يتصل بالحقول الإبداعية ذات الصلة بالمعرفة، ومما يثلج الصدر أن نجد جهة رسمية مثل التوجيه المعنوي برئاسة أركان قوات السلطان المسلحة في وزارة الدفاع تتفاعل مع المنجز العماني الثقافي، وتخصص له فعالية مستقلة ضمن برامجها السنوية.

ويحتفي التوجيه المعنوي بالأدباء والفنانين من منتسبي قوات السلطان المسلحة، الذين يمتلكون الموهبة والمعرفة والقدرات الفنية الإبداعية.

وقد اعتاد التوجيه المعنوي تنظيم مسابقات ثقافية ‎متنوعة تشمل مجالات متعددة؛ مثل: "حفظ القرآن الكريم وتجويده، الخط العربي، الشعر الفصيح، والشعر العامي، والمقال العلمي، والبحث العلمي، والقصة القصيرة، التصوير الضوئي، والرسم، والنص المسرحي، والتصميم الجرافيكي، والإجادة في الأعمال الفردية، إضافة إلى المسابقة الثقافية (سين وجيم)".

واستقطبت حقول المسابقة الثقافية أصحاب الملكات الفطرية الموهوبة من كافة أسلحة قوات السلطان المسلحة والدوائر الأخرى في وزارة الدفاع والحرس السلطاني العماني وشؤون البلاط السلطاني.

وقد أسند التوجيه المعنوي مهمة التحكيم إلى لجان متخصصة ومستقلة تكوَّنت من متخصصين أكاديميين من ذوي الكفاءة والخبرة من مختلف الجهات الحكومية ذات العلاقة بمجالات المسابقة، وتقييمها وفق معايير محددة منسجمة مع أهداف المسابقة ومجالاتها.

وشهد مسرح الكلية العسكرية التقنية برنامج الحفل الختامي للمسابقة الثقافية في نسختها الثالثة عشرة لقوات السلطان المسلحة 2019؛ حيث تضمنت تقديم مسرحية بعنوان "لوحة لم تكتمل"، تحدثت عن أسرة بسيطة كانت تعيش في حالة استقرار، تنعم بما تنعم به السلطنة من أوجه الأمن والأمان، ولكنها كانت تعاني من بعض المشاكل الاجتماعية، عندما يتعرف الابن على أصدقاء السوء الذين يستغلونه ماديا ويوهمونه بأوضاع ليست حقيقية ومتأثرا هو بتداعيات الاستخدام السلبي لوسائط التواصل الاجتماعي وما تحدثه من تأثيرات متعددة سواء على مستوى الفرد أو المجتمع أو الدولة بشكل عام. وتتوالى الأحداث لنجد الابن يتعرض للإساءة بسبب انجرافه في قضايا أخرى كنتاج لرفقاء السوء ونتاج كذلك للاستخدام السلبي لوسائط التواصل الاجتماعي، بينما هناك بالمقابل الأخت الصغرى التي كانت ترسم لوحة فنية، لكنها لم تكتمل بما يجسد تلك التحديات والمشاكل التي يمكن أن تواجه الأسرة في ذلك المجتمع الذي يُسيء أبناؤه استخدام ما يسمى بالإعلام الحديث في واقعه الافتراضي، وأهمية جهود الوعي وبرامج التثقيف لمختلف المؤسسات الحكومية ذات الشأن و ما يجب أن تضطلع به في هذا الإطار.

وإحياءً للموروث العُماني من الأهازيج والفنون التقليدية التاريخية، تضمَّن الحفل كذلك عرض فقرة لفن "العازي"، جسد في مضامينه الفخر والمدح وارتداء الزي العماني التقليدي، وانطلق المؤدون لهذا الفن الشعبي من بين صفوف الحضور، بما يؤكد حجم الاهتمام الذي يوليه المجتمع العماني بالمورثات التاريخية والفنون التقليدية العمانية النابعة من الأصالة والبُعد الحضاري. وقد جسدت خطى المؤدين لفن "العازي" عجلة النماء والإعمار لمسيرة النهضة المباركة، مرددين كلمات الفخر والمدح، وبما يؤكد العزم والتصميم في السير بهذه الخطى الوطنية الواثقة نحو المزيد من مظاهر الازدهار، ومن خلال استقرار المؤدين على منصة العرض أكدوا بذلك ثبات النهج العماني وقدرته على الصمود أمام مختلف التحديات. وبشكل عام، فقد استطاعت هذه اللوحة أن تقدم فقرة فنية تراثية أكدت أهمية التراث العماني لا سيما اللوحات البطولية والحماسية منه؛ ونستوقف معها إمكانية إدراج فن الرزحة مستقبلا ضمن فقرات هذا المشهد الثقافي الذي احتضنه التوجيه المعنوي في أمسيته الوطنية.

‎ويُمكن القول إنَّ التوجيه المعنوي في رئاسة أركان قوات السلطان المسلحة بوزارة الدفاع، استطاع أن يفعِّل وبجلاء مفردات المنظومة الثقافية بين منتسبي قوات السلطان المسلحة. وتمكنت المسابقة السنوية من استخلاص الكثير من طاقات أفراد هذه القوات وحُسن الاستفادة منها وبصورة إبداعية، وقد أكد القائمون على هذه المسابقة جميعا على أهمية وجود حضور المشهد الثقافي والفني، سواء على مستوى الأجهزة العسكرية أو على المستوى الوطني، وضرورة الاهتمام بالمحتوى الثقافي الذي تنعم به السلطنة شكلا ومضمونا، وفي شتى المجالات الفكرية منها والاجتماعية والاقتصادية.

وقبل الختام، نود الإشادة بالتجديد والتطوير في فقرات المسابقة الثقافية التي نظمها التوجيه المعنوي، إذ اشتمل الحفل على فقرات لم تكن موجوده سابقا، مثل: إدخال فقرة الفنون التقليدية كفن (العازي)، وفن (الندبة)، وهذه التفاته ذكية من قبل المنظمين لتسخير الفنون الحربية الحماسية التقليدية، ومحاولة التعريف بها وتسليط الضوء عليها في مثل هذه المناسبة. إضافة لأهمية مسرحة القضايا الأمنية لتبث رسائل توعوية للمجتمع العماني، تؤكد ضرورة صياغة الخطاب العسكري في قالب درامي، يكون قادرا على مخاطبة الناس وترسيخ مضامينه في ذاكرتهم الفردية والجمعية، عكس الخطاب التقليدي المباشر.

ونأمل في الدورات القادمة أن تتضمن المسابقة الثقافية: مسابقة الفيلم السينمائي الوثائقي القصير، والذي سيكون وسيلة مهمة أخرى، ولتقديم رسالة المؤسسة العسكرية والدفاعية في قالب سينمائي يوثق الأحداث الوطنية المهمة.

تعليق عبر الفيس بوك