عبد الله العليان
كتب الكثير من الباحثين العرب ومن غيرهم، عن قضية الأزمات العربية الراهنة، التي لا تزال قائمة، حيث، كما يراها البعض، تكرر أزماتها بين فترة وأخرى، فتتوقف وتستعاد مرة أخرى وهكذا، فهل المشكلة في السياسات العربية، وسوء التفكير السليم؟ أم الأمر يتعلق بجذورنا، وترسباتنا الاجتماعية والثقافية، التي ترافقنا من قرون مضت حتى الآن، وهي التي تفعل فينا هذه المشكلات والتوترات والتراجعات على كل الأصعدة.
ومن الباحثين الذين طرحوا قضيّة الأزمات العربية وربطها في الجذور القديمة، في خط متصل، وتأثير القبلية والعشائرية على مجمل المشكلات العربية القائمة. ومن الكتاب الذين كتبوا عن هذه القضية، ودافع عنها في العديد من مؤلفاته، د. محمد جابر الأنصاري، وهذا ما طرحه في كتابه "تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية"، أنّه تحدث عن جذور هذه الأزمة التي ما برحت تفارق العرب في حياتهم السياسية والفكرية، فيقول: "لا يستطيع الدارس لظواهر الحالة السياسية عند العرب أنّه بغض النظر عن امتداد خيط واحد، متصل عن حس الأزمة في نسيج الحياة السياسية، ماضياً وحاضراً، منذ القدم إلى يومنا هذا.. وكأنّ السياسة "كعب أصيل" في الجسم العربي وفي بنيان الحضارة العربية ـ الإسلامية، الغنية بعطائها الروحي والعلمي والإنساني، في ما عدا عطاء السياسة واختياراتها ومحنها، وفيما عدا الشأن السياسي والإنجاز السياسي الذي يبدو أضعف جوانبها على الإطلاق".
وحشد الدكتور الأنصاري في هذا الكتاب، كل ما في وسعه من المؤيدات والمقولات، لتأكيد هذه المعضلة السياسية، كما يسميها، التي تبرر هذا التفسير وتسوغه، كشواهد على ما يعتقده سبباً في تأزم العرب وتفاقم مشكلتهم السياسية، التي ـ كما يراها ـ لها جذورها الكامنة في ذاتيتهم. وفي نفس الفكرة المطروحة عن هذا التأزم التاريخي والسياسي للعرب وامتداده إلى عصرنا الراهن، حيث يطرح د. الأنصاري الفكرة نفسها ويعززها، من خلال كتابه الثاني "التأزم السياسي عند العرب وموقف الإسلام"، وهو ما يؤكد موقفه من النظرة السابقة، وأكثر تأكيداً لهذه الرؤية، فيقول: "إن هذه الأزمات السياسية العربية المعاصرة في جانب مهم منها هي استمرار لأزمة سياسية تاريخية مزمنة ظلت معتملة في بنية الحضارة العربية الإسلامية منذ الحروب الأهلية في العهد الراشدي. فعلى الرغم من عظمة الحضارة الإسلامية غير السياسية من قيم وفقه وفكر وآداب وعلوم وفنون، فإنّ الجانب السياسي في الممارسة المؤسسية والواقعية ـ بالذات أضعف جوانبها".
والحقيقة أنني اختلفت مع د. الأنصاري، في بحثي الذي اشتركت عن فكره، وحمل عنوان "العرب والسياسة.. بحث في فكر د. محمد جابر الأنصاري"، وقد خالفت ما قاله من حيث، رد كل الأزمات والمشكلات والتراجعات، إلى الجذور، وأنّها تعيد وتستعيد إنتاج كل ما يجري إلى عصرنا الراهن، وتجاهل السياسات والممارسات والبعد عن الديمقراطية، واتخاذ الوسائل القاسية على ردود الأفعال، فهذا في رأيي هروب من البحث والتقييم الدقيق للمشكلة.
قد يعتقد البعض أنّ أمورنا الراهنة، ترتبط، بما كان عليه العرب، في القرون الماضية، وهذا من التفسيرات الخاطئة، فكل الثقافات والحضارات، مرّت بظروف مختلفة، فأحيانًا نهوض وتقدم وفترات نكوص وتراجع، والحروب والصراعات حصلت، وستحصل، وتلك طبيعة بشرية، لنوازع وأهداف ومرامٍ، لكن منطقاً وعدلاً، عندما تفسر ظروف العرب الراهنة، بأنّها امتداد لحالتنا السابقة، وهذا بلا شك ـ في رأيي استنتاج مع الفارق، بين مرحلة ومرحلة، ثمّ لماذا العرب، عندما عاشوا في الغرب مثلا، فإنّ الجذور والتراث والتاريخ السلبي القديم، أصبح عاجزاً، عن إبداعاتهم وقوة فكرهم ونجاحاتهم، وحصلوا على مكانة كبيرة في العلم والتكنولوجيا، وجوائز تقديرية كبيرة على إنجازاتهم، ومن هذا المنطلق، نرى أنّ فكرة الإخفاقات والأزمات في المجالات السياسية والاجتماعية، والاقتصادية، وغيرها خلال القرون الماضية، مردها إلى الجذور التاريخية والترسبات والتركيبات الاجتماعية، لا تستقيم ووقائع كثيرة دالة على عكس الكثير من الأفكار التي قيلت عن العرب وقضاياهم.
ومما قلته في بحثي عن فكر د. الأنصاري: أنّ ما تعانيه الأمة العربية، ليس مردّه إلى الجذور وقيم العصبية القبلية، بل إلى غياب التطبيق العادل، والنموذج القدوة، والأنانية والذاتية المفرطة عند بعض النخب السياسية العربية، والاعتقاد الخاطئ بإيجابيات الإيديولوجيات والأفكار المستوردة لتطبيقها في واقعنا، للاعتقاد، بأنّ هذا اللحاق بالغرب في تقدمه ونهضته، لكن هذا الاعتقاد خاطئ؛ لأنّها تفترق عن مرجعيات العرب والمسلمين، في التقدم المنشود، فالأمم والشعوب التي تستعير الأصول والأفكار خارجها، كما هي لتطبيقها، تفتقد الرؤية الصحيحة، وتواجه انعدام الوزن الفكري والثقافي، وتتخبط في أهدافها وخططها وبرامجها، وهذا ما واجهته الدولة العربية الحديثة، في أول رهان لها بعد رحيل الاستعمار. لذلك الحل الأمثل هو مراجعة السياسات التي ساهمت في ما تعيشه الأمة، من انقسامات وصراعات وتراجعات على الأصعدة، إذن الدواء الذي تتجرعه أي أمة لإصلاح ذاتها، وعلاج تأزمها ومشكلاتها القائمة؛ هو الاستمداد من مبادئها، واستلهام سنن التطور من ثوابتها.