النّسق الحكائيّ التّراثيّ.. "ليالي ألف ليلة" لنجيب محفوظ نموذجاً (1-2)

أ.د/ يوسف حطّيني| أديب وناقد فلسطيني وأكاديمي بجامعة الإمارات

 

أولاً ـ تمهيد:

لم يترك نجيب محفوظ نوعاً من أنواع الرواية إلا كتب فيه، فقد كتب الرواية التاريخية والذهنية والفلسفية والواقعية، وأفرد جانباً من رواياته لمحاكاة السّرد العربي القديم، في عصرٍ كان المؤلفون فيه يتباهون بمحاكاة النموذج الغربي، ويتنافسون في تطويره والبناء عليه، وقد تجلّى ذلك في ثلاث روايات هي "ملحمة الحرافيش" 1977 و"ليالي ألف ليلة" 1982، ورحلة ابن فطومة 1983.

وإذا كانت رواية "ملحمة الحرافيش" قد جنحت إلى الترتيب التعاقبي التأريخي لتثبيت مقولة القوة من أجل تحقيق العدالة، ورواية "رحلة ابن فطومة" قد مالت نحو الذهنية، لتثبيت وهم مقولة المدينة الفاضلة، فإنهما اشتركتا مع رواية "ليالي ألف ليلة" في ذلكما التوجهين الفكريين، وإن اختلفتا في شكل تقديم الحاكية التراثية عنها؛ فكلتاهما تطرحان حكاياتهما في نسق تعاقبي سهمي، بينما تقدّم "ليالي ألف ليلة" حكاياتها متداخلة بشكل يوازي الحكاية الأصلية ويعضدها.

ولأن الناقد مشغوف بالبحث عن آليات الاشتغال الفنّي أكثر من شغفه بسحر النّص، فإنّ أوّل ما يجول في خاطره قبل البدء بفتح الصفحة الأولى من الرّواية، تلك الإحالة المحكمة من خلال عتبة النص الأولى، وهي العنوان، إلى حكايات راسخة في السّرد التّراثيّ القديم، ويجعله متأهباً لكشف الاختلافات والتّشابهات بين نص حاضر في الذهن، ونصّ ماثل أمامه، وهذا يولّد لديه عند القراءة إيقاعات سردية تتدفّق نتيجة تكرار التشابهات القائمة بين المحفوظ والملفوظ.

  1. الدهشة الأولى التي تواجه القارئ تتعلق بزمن السرد عند نجيب محفوظ، فهو لا يحاكي زمن السّرد في الليالي، بل يؤسس عليه؛ بمعنى أن السرد يبدأ بعد انتهاء الليالي التي كانت فيها شهرزاد ساردة مهددة بالقتل عند صياح الديك، لتصبح زوجة آمنة.
  2. وأما الدهشة الثانية فهي استلاب دور السرد من شهرزاد التي كانت نجمة الليالي، لتصبح متلقية للأحداث والحكايات، بل متلقية لحكايات شهريار نفسه، الذي يزعزع الأدوار التراثية الراسخة، حين يستمع من نور الدين حكايته مع الفتاة المجهولة، فيعود إليها قائلاً: "جاء دوري لأحكي لك حكاية غريبة"، ص129.
  3. وأما الدهشة الثالثة فهي انتقال شهرزاد، وشهريار بشكل أقلّ، من دور وظيفي فاعل مؤثر، إلى دور المتلقي الذي تؤثر فيه حكايات الآخرين؛ وإذا كان شهريار قد تحوّل في تضاعيف هذه الرواية من متأثر إلى فاعل، فإن شهرزاد لم تتعدَّ حدود التأثر، والحذر المستمر تجاه التغيرات التي تطرأ على زوجها.

ثانياً ـ أنواع الحكايات الصغرى:

تقوم رواية "ليالي ألف ليلة" على حكايات صغرى، تندغم في حكاية كبرى، أو لنقل فى إطار حكائي عام، وتجري، على ما يظهر من بيئة سياسية ودينية، في العصر العباسي، حيث تتم ملاحقة الشيعة والخوارج من قبل السلطة الحاكمة الممثلة بشهريار، وحيث يكثر العزل والتعيين، فنشهد تغيّر حكّام الحي (علي السلولي، خليل الهمذاني، يوسف الطاهر، سليمان الزيني، الفضل بن خاقان، عباس الخليجي، معروف الإسكافي)، كما نشهد مقتلة عظيمة؛ إذ يتم قتل، أو إعدام، علي السلولي وصنعان الجمالي وجمصة البلطي وبطيشة مرجان وخليل الهمداني وإبراهيم العطار وعدنان شومة وعلاء الدين أبو الشامات ودرويش عمران، و حبظلم بظاظا.

وثمة في الرواية زمن خاص يمكن تعقب ليله ونهاره ودوران فصوله من خلال إشارات زمنية متعددة، تتناثر هنا وهناك، ومنها:

  • "وأشار السلطان بإطفاء القنديل الوحيد، فساد الظلام، ولاحت بوضوح نسبي أشباح الأشجار الفواحة"، ص5.
  • "غمر نور القمر أيضاً قمقام وسنجام المستلقيين فوق غصن من أغصان الشجرة الكبرى في ليلة مازجت فيها أنفاس الشتاء المودّع أنفاس الربيع المتحفّز"، ص100.
  • "شهريار ودندان يغوصان في الليل، يتبعهما شبيب رامة، وقد تلاشت حركة الإنسان.. على ضوء المصابيح المتباعدة لاحت الدور والحوانيت والجوامع نائمة، وخفت حرارة الصيف"، ص167.
  • ""وأمطرت السماء في ذلك الخريف على غير عادة"، ص200.

أما الإطار المكاني لهذه الحكايات فقد انتقل بين قصر شهريار وقصور الحكام، وبيوت العامة، بالإضافة إلى مقهى الأمراء الذي وجد فيه نجيب محفوظ تكؤة مكانية لتقديم كثير من شخصيات الرواية، بعد أن أثّثه بالأرائك والوسائد والشلت والمشروبات الساخنة والباردة، ووصفه بأنه يتوسط "الجانب الأيمن من الشارع التجاري الكبير.. وهو مربّع الأركان واسع الساحة، يفتح مدخله على الطريق العام، وتطلّ نوافذه على حواري جانبية"، ص12، وهو يفيد من حين يخترقه أبطال الحكايات:

"تشهد لياليه كثيرين من السادة أمثال صنعان الجمالي وابنه فاضل، وحمدان طنيشة وكرم الأصيل، وسحلول وإبراهيم العطار وابنه حسن وجليل البزّاز ونور الدين وشملول الأحدب، كما تشهد كثيرين من العامة أمثال رجب الحمّال وزميله السندباد وعجر الحلاق وابنه علاء الدين ومعروف الإسكافي"، ص12.

وتختلف حكايات الرواية الصغرى بعضها عن بعض، بنيةً ووظيفة، ويمكن أن نشير إلى أربعة أنواع منها:

  • النوع الأول تتخذ فيه الحكاية طابعاً ممتداً، ويمتدّ تأثير الشخصيات فيها على مدى فصول متعددة من الرواية، ومن أنصع أمثلتها حكاية (جمصة البلطي) كبير الشرطة الذي لا يسمع إلا صوت الواجب، فقد حزن على صديقه التاجر صنعان الجمالي ولكنه صادر أمواله بعد إعدامه؛ وإذ راح يصطاد بعد حزنه على علي السلولي وقاتله صنعان، خرجت له كرة معدنية رماها في بطن القارب فأسفر غبارها عن خروج العفريت سنجام المحبوس منذ عهد سيدنا سليمان، وبسبب الفوضى أثارها العفريت في المدينة لم يكن للبلطي سوى أن يعتقل أعداء السلطان السياسيين متهماً إياهم بكل ما يجري. وحين استدعاه الحاكم خليل الهمداني موبّخاً: "المدينة تخرب وأنت تغطّ في النوم"، ص51، لم يحر جواباً.

وازداد الأمر سوءاً حين سرقت جواهر حريم الحاكم: "موعدنا المساء وإلا عزلتك وضربت عنقك"، ص57، غير أنه يعود (بعد أن وعد الشيخ عبد الله البلخي بإحقاق الحق وفعل الخير)، فيقتل الحاكم خليل الهمذاني، ويستسلم للشرطة من حوله فيعتقلونه، ويروي قصته مع العفريت أمام شهريار، ثم يستسلم للنطع، فيمرّ به الموت لحظة ثم يذهب؛ إذ يتدخل سنجام وينقذ روحه في صورة رجل آخر: "من أعلى باب الدار تدلّى رأس جمصة البلطي.. الرائحون والغادون ينظرون إليه، يتوقفون قليلاً ثم يذهبون، وجمصة البلطي ينظر مع الناظرين"، ص66.

هكذا عاش في صورة عبد الله الحي وروح جمصة الميت، وراح يحقق جهاده في الخير، وضدّ الشرّ، كما يراه، فقتل بطيشة مرجان كاتم السر بسهم قاتل، كما قتل إبراهيم العطار، ونوى قتل يوسف الطاهر وعدنان الشومة، ثم تحول من عبد الله المجنون، إلى عبد الله العاقل، بعد أن قابل عبد الله البحري، ونزل ـ بناء على طلب الأخير ـ في الماء، وخرج بوجه "لا هو وجه جمصة البلطي ولا وجه عبد الله.. وجه قمحي صافي البشرة، ولحية مسترسلة سوداء، وشعر غزير مفروق ينسدل حتى المنكبين"، ص ص49ـ 50.

وإذ يذهب ليعترف بقتله كلاً من عدنان شومة والهمذاني وبطيشة مرجان وإبراهيم العطار، لا يصدقه كبير الشرطة الجديد بيومي الأرمل، ويصر أن يبحث عن عبد الله الحمّال.

  • النوع الثاني هو الحكايات المغلقة التي تشكل حلقة حكائية متكاملة في إطار طباعي محدود، ومنها حكاية (صنعان الجمالي) وحكاية (نور الدين ودنيا زاد) وحكاية (قوت القلوب)، وحكاية فاضل صنعان مع (طاقية الإخفاء)، وحكاية (معروف الإسكافي) مع خاتم سليمان.

ولا نعني ها هنا بالحكاية المغلقة اختفاء شخصية البطل، أو اختفاء تأثيرها بشكل نهائي، بل اكتمال الدائرة السردية لحكايتها الأساسية، فحكاية صنعان الجمالي تبدأ بأن يدوس على رأس العفريت قمقام، وتنتهي بقطع رأسه على النطع:

"ـ دستَ رأسي يا جاهل..

قال بنبرات مرتجفة:

ـ من أنت؟

ـ أنا قمقام"، ص15.

وتمرّ الحكاية بأن يقتل صنعانُ حاكمَ الحيّ علي السلولي بناء على طلب العفريت، بعد أن يكتشف ألا أمل له بالنجاة من قمقام إلا بذلك. وفي سورة من سورات اضطرابه النفسي يغتصب طفلة ثم يقتلها، فينقذه العفريت قمقام؛ ليحقق وعده بقتل السلولي، ثمّ يمتنع قمقام عن مساعدته، بعد أن تحرّر من السحر الأسود، ويتركه للنطع (ولكنه ينقذ روحه في صورة رجل آخر)، ويترك عائلته للفقر والنفي والتشريد.

"ـ الآن تحرر قمقام من السحر الأسود..

قال صنعان:

ـ أنقذني، فقد كرهتُ المكان والمنظر.

فقال بهدوء وعطف:

إيماني يمنعني من التدخل بعد أن ملكتُ حرية إرادتي"، ص36.

وتقوم حكاية (نور الدين ودنيا زاد) المغلقة على حلم مشترك تحلم به الشخصيتان في وقت واحد، حلم له قوة اليقين، فقد قضيا معاً ليلة عرسهما، وبدت آثار تلك الليلة عليهما. لقد كان حلماً من ترتيب سخربوط وزرمباحة، لشخصين لم يلتقيا سابقاً، وحين أفاقا استغربا من قوة الحقيقة المفقودة، حتى إن دنيا زاد حكت لأختها شهرزاد؛ لأنها لا تستطيع إخفاء آثر تلك الليلة، فنصحتها بالكتمان مبدئياً، وحين أخبرت أمها أهمّها ذلك همّاً شديداً، أما نور الدين فقد حدث أمه بحلمه العجيب فعدّت ذلك إشارة من الغيب للزواج.

ويقع المحظور حين يتقدم كرم الأصيل صاحب الملايين لدنيا زاد، وينال رضا السلطان وموافقة الأب، ولكن شهريار إذ يسمع خلال رحلة له مع دندان قصة نور الين منه، يعده بالخير ويرسل المنادين بحثاً عن الفتاة، غير أن دنيا زاد تهرب نحو ضفة النهر، ثمّ إلى (زوجها) نور الدين، ويتحقق وعد السلطان بتزويجهما مما يزعج سخربوط وزرمباحة.

ومثل هذه الدوائر المغلقة للحكايات تنطبق على حكاية (قوت القلوب)/ جارية الزيني سليمان التي يحاول قتلها المعين بن ساوى وزوجة الزيني، فينتهي الأمر بهما إلى النطع، وحكاية علاء الدين أبو الشامات/ ابن عجر الحلاق الذي يصطفيه الشيخ عبد الله البلخي لصداقته، ثم يعقد له على ابنته زبيدة التي رفض أن يعطيها لابن كبير الشرطة، فيدبران  له اتهاماً ينتهي به إلى النطع، ثم تتكشف الحقيقة فينتهي صاحب الشرطة درويش عمران، وابنه حبظلم بظاظا النهاية نفسها.

وكذلك تنتهي حكاية طاقية الإخفاء التي يعطيها سخربوط لفاضل صنعان، فينتقل وهو متخف، من العبث البريء إلى السرقة والقتل منتهياً إلى النطع، وكلك تنتهي حكاية معروف الإسكافي الذي لم يخضع لسلطة سخربوط، فينتهي به الأمر حاكماً على الحي.

  • النوع الثالث من الحكايات هو الحكايات المنقطعة التي تظهر في سرد أولي، وتنقطع من ثم؛ لتظهر في سرد نهائي، على نحو ما نجد في حكاية السندباد؛ فالسندباد يظهر عند بدايات السرد في مقهى الأمراء، ويبدو ضجراً من عمله حمالاً، ساعياً إلى البحث عن حياة أخرى في البحر: "ضجرتُ من الأزقة والحواري، ضجرتُ من حمل الأثاث والنقل، لا أمل في مشهد جديد.. هناك حياة أخرى"، ص13.

وتنقطع أخبار السندباد حتى يكاد السرد ينساه؛ ليعود أخيراً تاجراً ثرياً، يحدّث أصدقاء المقهى، ويفتح وكالة جديدة في السوق، ويزور الحاكم معروف الإسكافي، ثم يذهب إلى شهريار الذي رغب في رؤيته. وإذ يسأله شهريار عن أخباره وحكاياته تنتقل الحكايات إلى نوع رابع.

  • والنوع الرابع هو الحكايات التي ليس لها أي أثر مهم في سير الرواية العام، ولا يضير أن تستبدل بها حكايات أخرى، وهي مجموعة الحكايات التي يسردها السندباد على مسامع شهريار، وقد كان السندباد يبيّن مغازي قصصه ودروسها المستفادة قبل أن يسردها؛ ويمكن أن نلاحظ ذلك من خلال ما يلي:
  1. "تعلمت يا مولاي أول ما تعلمت أن الإنسان قد ينخدع بالوهم فيظنه حقيقة"، ص272، ثم يحكي لشهريار حكاية الحوت الكبير الذي ظنه الناجون من السفينة الغارقة جزيرة سوداء.
  2. "تعلمت يا مولاي أن النوم لا يجوز إذا وجبت اليقظة"، ص273، ويحكي له حكاية استغراقه في النوم، ورحيل جميع من معه في سفينتهم، حيث ربط نفسه بطرف ساق طائر الرخّ حتى تمكّن من النجاة.
  3. "تعلّمت أيضاً يا مولاي أن الطعام غذاء عند الاعتدال ومهلكة عند النهم"، ص274. ثم يحكي له حكاية استضافته مع رفاقه من قبل عملاق يكرمهم بالطعام من أجل أن يأكلهم.
  4. "تعلمت أيضا يا مولاي أن الإبقاء على التقاليد البالية سخف ومهلكة"، ص275، ويحكي له حكاية قوم زوجوه وزوجوا رفاقه من نساء جميلات، وكانت تقاليدهم تقضي بدفن الزوج حياً مع زوجته عندما تموت. وحين جاء المخاض زوجة السندباد ساءت حالتها، فهرب إلى الغابة وسبح نحو سفينة كانت قريبة من الشاطئ.
  5. "تعلمت يا مولاي أن الحرية حياة الروح"، ص276، ثم يحكي عن رجل في جزيرة طلب منه المساعدة فحمله على كتفه، غير أن الرجل لم يتركه إلا بعد أن سقاه السندباد خمراً، فتراخت عضلاته، ثم قتله وأراح الناس من شره.
  6. "تعلمت يا مولاي أن الإنسان قد تتاح له معجزة من المعجزات، ولكن لا يكتفي أن يمارسها ويستعلي بها، وإنما عليه أن يقبل عليها، مستهدياً بنور من الله يضيء قلبه"، ص277. ثم يحكي له نزوله في جزيرة تزوج منها، وركّب القوم له ريشاً وأخبروه أن بإمكانه الطيران، وقالت له زوجته سراً: "احذر أن تذكر اسم الله وأنت في الجو وإلا احترقت"، ص277 فعرف أن دم الشيطان يجري فيهم، وهرب طائراً إلى مدينته.

(يتبع)...

تعليق عبر الفيس بوك