التباسات الديمقراطية وغموضها

 

محمود حيدر*

لم يكن لفكرة أن تنال حظَّها الأوفى في مداولات التنظير كفكرة الديمقراطية. فقد اتّخذت مقاماً صار يُرى إليها  فيه كشريعة سياسية تدنو من القداسة. وبفضل ما اختزنته من سحر خاص في تاريخ الفكر السياسي وتحولاته، فقد جاءت الديمقراطية محمَّلة بلَبْسٍ ثقيل. الشواهد على هذه المنزلة الملتبسة في التجارب القديمة والمعاصرة لا حصر لها. فلو نظرنا سيرتها، لظهر لنا لونُها الرمادي على أتمِّه. كانت إذا بلغت، في مكان ما، وزمان ما، ما يُشتبه أنه نهاية الكلام على حكايتها، تفتـّحت أبوابٌ جديدةٌ على كلام مستأنف. كأنما قَدَرُنا وسؤال الديمقراطية ان نمضي وإيّاه إلى اللاّمتناهي، أو إلى الاستحالة. حتى ليَجَد كلُّ متسائل عن احوالها وأخبارها، كما لو كان بإزاء فكرة زئبقية، سرعان ما تتفلـَّت من مشاغل الفكر، منذ اللحظة التي يتوهم فيها ذاك الفكر، أنه ممسك بها، أو هو قابض على سرّها المستحيل.

لا تكتفي الديمقراطية بوجه واحد، فهي في كل حين تظهر بوجه جديد. ثم تتعدد وجوهها تبعاً لتعدد أفهام المشتغلين في حقولها. وهي كأي فكرة تدور مدار عالم الكثرة وكثافته، غالباً ما يكتنفها الالتباس والغموض. يروح الناس يُخضِعونها للتأويل، كلٌ بحسب قبلياته المعرفية وأحكامه القيمية وظروفه التاريخية. لكأن صورتها انعكاس شرطي لصورة عالم زاخر بالأضداد، وجميع من في هذا العالم يجد نفسه حائراً بين غاياتها الفاضلة وتمثلاتها المذمومة في الواقع الحي.

       هل نقصد من هذا اننا لن نعثر على الديمقراطية إلا في الأذهان أو في أرجاء المدن الفاضلة؟

    تساؤل جائز ما دام البحث عنها يجري داخل الزمان والمكان. غير أن العثور على نموذجها الأتم -كما تصوَّرتها أفكار الأوَّلين والمتأخرين – يبدو عسير المنال في أزمنة الحداثة الفائضة. فلسوف يشق عليك ان تعثر على ضالَّتك وسط كتلة هائلة‌ من مواقع القوة المحروسة بشبكة معقدة من القوانين الصارمة. وعلى ما تظهره معاينات التجربة التاريخية الحديثة، فإن سَيْرِيـَّة الديمقراطية وسيرتها أفضت الى ذهنية انتفاعية استحوذت على قيمها ومثلها العليا وأحالتها الى تقنية وظائفية تطابق صورة هذه الذهنية ومبتغاها. والمفارقة هنا، ان الديمقراطية حين تتحول الى أداة للذهنية الانتفاعية المسيطرة  تبقى محفوظة بجاذبية مسمَّياتها الاولى. وبسبب من خاصِّية التحيُّز السياسي والدور الوظائفي تغدو الديمقراطية سلطة قوة وقدرة تمارس أفعالها المكتسبة من اسمها وصفتها وان توارت وراء حجاب يخفي أسراراً لا تُسبَرُ اغوارُها بيسر. فالاحتجاب، هو سر السلطة وسلاحها الأبدي. أو كما تقول الفيلسوفه الألمانية حنة آرندت "السلطة توجد حيث يوجد السر"..

*  *  *

في حدود خطبتها المجردة لا تنبسط الديمقراطية إلا على أرض التأويل؛ ولأنها تنتسب الى عالم المفاهيم فلا ينتهي الكلام عليها عند حد. إذ لكل متكلم في حياضها حظٌ ما من قول يناسب سَمْتَه وعيشه وثقافته. من البديهيات المعرفية فإن المفاهيم تمسي في فضاء التجريد، مجرد ملفوظات تأنسها الأذهان ولا تدركها الأعيان. ربما أدرك علماء الاجتماع الغربيون هذه الإشكالية فوجدوا ان مزاج الفرد لا مزاج الكثرة هو ما يشكل معياراً يحتسبُ فيه خير الديمقراطية وشرها. وثمة من مضى الى القول ان حقيقة الديمقراطية لا تنكشف على الملأ الاَّ حين يختبرها الفرد. في الفلسفة الفردانية يصعب ان يستشعر الأفراد فضائل الديمقراطية واخواتها ضمن أسوار الكثرة. في الغرب على نحو مخصوص - ولأسباب تعود الى تكوينه الحضاري- كل شيء يبدأ من جغرافية الفرد. وكما دلت الاختبارات المعاصرة فقد جرى تنصيب الفرد كمعيار للمجتمع الديمقراطي الليبرالي. صار هو الدليل على صدق الديمقراطية وجدواها في الحياة العامة. فما دام الفرد لا يشعر بالحرية الممتدة إلى اللامتناهي، فلن تعدو حريته ان تكون دفئاً وهمياً في صقيع قارته البيضاء. كل ما تؤتيه الديمقراطية من حرية انها تمنحه عارضاً من الانبساط، يظن معه أنه صار حراً. وحال الفرد في المجتمع الليبرالي الغربي لا ينأى كثيراً عما هو عليه حال الفرد في عالمنا العربي والاسلامي. غريزة الاستحواذ هي نفسها هنا وهناك. والفرد هو نفسه بطبعه وطبائعه. وما ذاك إلا لكون الحرية ماهية ذاتية وغرساً فطرياً في كل كائن بشري. فإنما هي شعور واستشعار من قبل ان تسري وتظهر في الحضارات الإنسانية المختلفة. فلئن جرى في المجتمع الرأسمالي الغربي عبر هيمنة التقنية الفائضة، ففي المجتمعات الشرقية يجري عبر ما لا حصر له من آليات الاستبداد السياسي والاقتصاي والاجتماعي. لذلك قيل ان الحرية مصداق وجود الفرد في هذا العالم. أما حكاية الحرية الفردية فهي نفسها في عالم "الديمقراطيات المعاصرة" أنى اختلفت ألوانها وتفاوتت درجات تطورها. ولو شئنا الإيضاح لبَدَت الصورة على هذا النحو: عند أول اختبار لحريِّتك سوف تتنبّه من فورك إلى انك قد رفعت السِّتر عن سرّك، أو عما كنت تضمره في نفسك لما ينبغي و ما لا ينبغي. وفي هذه اللحظة بالذات، سيكون عليك أن تتهيأ المخاطرة. وأن مخاطرة كالتي طَرقْتَ بابها سوف تصَّاعد وتائرها كلما علا صوتـُك بالاحتجاج. ولئن جرى قَدَرُك على غير مجرى أمرها، فما لك عندئذ إلا أن تتهيأ للاضطهاد.

كان الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو يشبِّه الاضطهاد بالحب. فالحب عنده لا يحتاج إلى مضطهِدين(بكسر الهاء) لكي يكون اضطهاداً. إذ يكفي أن تشعر بالاضطهاد لكي تكون مضطـَهداً. إن تجربة الاضطهاد مستقلة، وهي لا تُختزل إلى أي شيء آخر. هي مستقلة، بمعنى أنها لا تحتاج في حقيقة الأمر للآخرين. إنها في غنى عنهم. ليس المضطـَهدُ بحاجة إلى مضطـَهدين لكي يشعر بأنه مضطـَهد. صحيح أن للآخر وجهاً مكفهرَّاً وعابساً، وأن الآخرين قريبون جداً من المضطهد ولا تكاد تفصلهم عنه أية مسافة. لكن الشيء الأساسي في عملية الاضطهاد ليس هذا. فأن تكون مضطهداً - حسب فوكو - يعني أن تكون لك علاقة خاصة باللغة. بمعنى انك لا تستطيع أن تقول «أنا» إلا وتحس بأن هذه «الأنا» مشقوقة في منتصفها، ومكسورة في صميمها من قبل الآخرين، كل الآخرين. أن تكون مضطـَهداً كذلك، فهذا يعني ألا يستطيع المضطـَهدُ أن يتكلم من دون أن يهرب من كلامه، وينـزلق خارج حدود إرادته، ثم يدور حواليه لكي ينقلب ضده، ويصبح وكأن الآخر هو الذي لفظه، او كأن الآخرين هم الذين لفظوه. حين تكون مضطهداً، فذلك يعني أن تتكلم في عالم صامت رهيب، حيث لا يجيب على كلامك أحد، وحيث لا يرد عليك أحد أبداً. ولكن ما إن تصمت عن الكلام، وتمد أُذُناً صاغية حتى تسمع كلامك الخاص بالذات، وقد ارتدّ على نفسه، وصادره عليك الآخرون، وحوّروه حتى صار لك عدواً قاتلاً. إن المضطهد، كما نجده في «التوصيف الفوكوي» هو ذاك الذي يصغي إلى صمت العالم المملوء بدمدمة الكلمات التي ليست في الحقيقة إلا قفا لغته الخاصة بالذات"...

بهذا الشغف المرير رأت  لغة فوكو إلى تراجيديا الديمقراطية الحديثة. وهي لغة تُظهر بعض ما يستتر من قهرية الاستلاب. فلسوف نلاحظ مما ورد، أن قلق الديمقراطية والاضطهاد صار قلقاً كونياً في زمن الحداثة الفائضة؛ وهو لم يعد مقصوراً على الغرب كنص فكري وفلسفي، ما يضع الإنسان اليوم في هذه اللحظات العاصفة من التحوّل العالمي في مواجهة استرداد حريته ببعدها الوجودي أولاً، من قبل أن يستعيدها كحرية مشروطة بظروف بيئته السياسية ونظامه الاجتماعي.

*  *  *

لا يكتفي فكر الغرب الحالي ببسط الصورة وتوصيفها، فيما هو يعرض إلى حال الفرد. بل هو يمزج بين توصيف الواقع وتبريره. وعلى الدوام فقد عُرِّف التنوير بأنه فردي، لكنه في الواقع لم يكن كذلك. فالخضوع لمتطلبات الفكر العقلاني حرّر الإنسانية من الاعتقادات الخرافية والجهل، سوى انه لم يحرر الفرد، بل استبدل مملكة العرف بمملكة العقل... كما استبدل السلطة التقليدية بالسلطة العقلانية الشرعية. غير أن العقلانية الحديثة – على ما بين المفكر الفرنسي آلان تورين – تحاذر الفرد وتفضل عليه قوانين العلم اللاَّشخصية، والتي يمكن تطبيقها أيضاً على الحياة والفكر البشريين. وما يسمى بالفكر الحديث الذي شاء لنفسه أن يكون علمياً، راح يذيب فردية الظواهر موضوع الملاحظة في القوانين العامة. والتربية في النظام الاجتماعي – (لأن المنفعة الاجتماعية – بحسب هذه الرؤية - أصبحت معيار الخير).

لقد قلّصت الليبرالية الفرد إلى أقصى حد ممكن لتجعل منه كائناً يلاحق مصلحته بطريقة عقلانية. من هنا كانت العقلانية هي الفكر الأكثر صراحة في العداء للفرد؛ فالأنا التي كانت حضوراً للنفس، أي حضور الله في الفرد، تحولت إلى مجموعة من الأدوار الاجتماعية. لذا فهي لم تنتصر إلا في بدايات الحداثة عندما ظهرت كمبدأ للنظام المقترن بانتصار العقل على الأهواء وعلى المنفعة الاجتماعية.

الجانب الذي يعنينا وسط هذا الاحتدام المعرفي، ان سؤال الديمقراطية في "غرب الحداثة الفائضة" هو نفسه، في الجوهر، السؤال الذي يُسأل في مجتمعات ملتبسة، مركبة، كمجتمعاتنا. ويدل واقع الحال ان الفرد في الغرب طفق يعيش مأزق النسيان التدريجي لكينونته، بينما الفرد عندنا يعيش الخواء العام للتساؤل والاستفهام والنقد.

هل هي رحلة السأم من فردوس سياسي لا يزال يمكث في منطقة برزخية بين الذهن والواقع الحي؟..

سؤال يحتدم في قلب عالم اليوم بصمت رهيب.. فيما لا يبدو في الآفاق المنظورة ما يأتي بيقين...

مفكر وباحث في الفلسفة السياسية*

تعليق عبر الفيس بوك