مبدأ ترامب.. وزمن الزحف على البطون إلى دمشق

علي بن مسعود المعشني

Ali95312606@gmail.com

استراتيجيات الرؤساء الأمريكان تصب جميعها في بوتقة واحدة؛ مهما اختلفت في المسميات والأزمنة والأداء وهي بوتقة خدمة العرش الأمريكي وضمان سيادتها للعالم وهيمنتها عليه، والفارق الوحيد في تلك المفاصل التاريخية يكون بالإذعان لظروف طارئة أو مستجدات تجعل من "السيد" الأمريكي في حالات انكماش سياسي واقتصادي لبرهة من الزمن قد تطول أو تقصر والتي سرعان ما يتم علاجها بالبدلاء من الحلفاء الإقليميين إلى حين.

حين خرج النمر الأمريكي جريحًا من حرب فيتنام لم يجد بدًّا من توظيف أذرعه في المنطقة للنيابة عنه في رعاية مصالحه وترميم أعراض عجز القوة التي مُني بها في فيتنام، فكان الدور على الكيان الصهيوني وإيران الشاة، وسُمي ذلك بمبدأ نيكسون أو مبدأ غوام وذلك عام 1969م. أنتهى مبدأ غوام بهزيمة نكراء عام 1979م بقيام الثورة في إيران وخلع الشاة حليف أمريكا، فأجبرت الظروف أمريكا على العودة إلى مسرح الأحداث مجددًا والتواجد الإقليمي لمراقبة الأوضاع عن كثب وقيادتها. جعلت أمريكا من "الجهاد" في أفغانستان فخًا للاتحاد السوفييتي ونجحت في ذلك الأمر الذي أدى إلى تداعي أمراض ذلك العملاق حتى انهياره التام عام 1991م. وهلل الأمريكان حينها للسقوط المدوي لغريمهم التقليدي ولكنهم لم يُدركوا مرارة ما ينتظرهم من أحداث جسام نتيجة تفردهم بالعالم وضريبة القُطب الواحد، وفقدهم لسر الصراع مع خصم بحجم وقوة الاتحاد السوفييتي وما كان يعنيه لهم من توازن وتطور وتحدٍ. فخلال عقود تفرد الأمريكي بالعالم وترتيب الروس لأوراقهم وتقسيم أرث الاتحاد السوفييتي بهدوء وصمت مطبق، مارس الأمريكان سياسات البلطجة والكاوبوي في بقاع الأرض وفي سباق محموم مع الزمن فعادت عليهم تلك العربدة بالكثير من الاستحقاقات السلبية والتي تعاظمت بدورها حتى أصبحت تكتلات إقليمية وجبهات مقاومة هنا وهناك، منها من يرغب في تحدي صلف أمريكا كمجموعة بريكس ومنهم من يرغب في الحفاظ على وجوده من الاختراق الأمريكي كمجموعات التجمع البوليفاري في أمريكا اللاتينية.

في عهد الرئيس أوباما استشعرت الإدارة الأمريكية شيئا من حماقات سياستهم والآثار العكسية لها، فكان قرارهم بالانسحاب من العراق قرارًا صائبًا رغم مرارته عليهم، ثم تلاه بقرار الاتفاق النووي مع إيران والذي بموجبه تنفس العالم الصعداء وتبددت سُحب الحرب وتراجعت خياراته. وبوصول الرئيس المقاول دونالد ترامب إلى الرئاسة في أمريكا كان الوضع مثاليًا له لجني ثمار سياسة سلفه أوباما والتي أورثته السلم والاستقرار في المنطقة وهيأت له كل أسباب توظيف القوة الناعمة الأمريكية لخدمة النفوذ والمصالح الأمريكية إضافة إلى ترميم فجوات الكراهية بين أمريكا والعالم بفعل عقود من المغامرات العسكرية حول العالم، وفي نفس الوقت الانكفاء على الداخل الأمريكي والاهتمام بمشكلاته المتعاظمة من بطالة وبنية تحتية وخدمات وضرائب وغيرها وهي كانت في صميم البرنامج الانتخابي لترامب، حيث كان أغلب المراقبين للشأن الأمريكي يعتقدون بأن عهدة ترامب ستكون شبيهة بعهدة كلينتون والذي اختار الهدوء والالتفات نحو الشأن الداخلي بعد ضجيج حرب الخليج الثانية وتداعياتها، وبما أنّ أمريكا كيان مبني ومؤسس على العنف والحروب فقد تشبه ترامب ببلده وامتثل لثقافتها الموروثة قبل فترة الاسترخاء وكما فعل كلينتون حين افتتح عهدته بعملية ثعلب الصحراء على العراق عام 1998م ليبرهن أمريكيته، فقد دشّن ترامب عُهدته بالانسحاب من طرف واحد من معاهدة الاتفاق النووي مع إيران لإحداث ضجيج ما ثم تبعه بسلسلة من حروب الطواحين الدونكيشوتية حتى بلغت به القناعة بالإعلان مؤخرًا عن انسحاب أمريكا من المنطقة ودفاعها عن مصالحها الحيوية فقط، هذا القرار المفاجئ والذي أربك من يسمون بحلفاء أمريكا وأدواتها في المنطقة وجعلهم يهرولون بلا وعي للبحث عن حلفاء جدد وعن سلالم آمنة تُنزلهم من فوق أشجار المقامر الأمريكي الهارب بجلده.

الأزمة السورية هي جذر الأزمات في المنطقة منذ اندلاعها عام 2011م، وصمود دمشق الأسطوري غيّر ملامح التحالفات وقواعد الاشتباك في المنطقة وعليها مرارًا كوّن الرئيس بشار ونظامه لاعبين ماهرين للغاية بقواعد الشطرنج وطرق وتوقيت تحريك القطع في الأوقات المناسبة، بينما خصومهم لاعبو قمار بامتياز وبالتالي سرعان ما أفلسوا في جميع حلقات استراتيجيتهم ومراحلها حتى أوصلوا اللاعب الأمريكي إلى القناعة النهائية بتخليه عن المنطقة برمتها (مبدأ ترامب) الأمر الذي دفع بالحلفاء والأدوات قسرًا إلى الزحف على بطونهم تجاه دمشق وحلفائها للظفر بشيء من المكاسب وقبل المكاسب السلامة والنجاة من العقاب، وهنا تصدق للمرة الألف مقولات: "إنّ المتغطي بأمريكا عريان" ومقولة: "من يتعامل مع أمريكا كمن يتاجر بالفحم، ليس له من تجارته سوى سواد الوجه والكفين".

قبل اللقاء: ما يعجبني حقيقة في دهاء النظام السوري أنّه يحيط خصمه بجملة من الظروف الموضوعية الناعمة حتى ينضج ويسقط أمامه كالثمرة الفاسدة.. و"قسد" اليوم كمثال واحد فقط!!

وبالشكر تدوم النعم..