إِلَى ابْنَتِي الوصية (11)

 

مي خان | سويسرا

شاعرة من أصل جزائري تعيش في لوزان

 

بُنَيَّتِي.. الوِلادَةُ وَالمَوْتُ شَيْئَانِ قَدْ تَرَيْنَهُمَا مُتَنَاقِضَيْنِ..

لَكِنَّهُمَا، حَبِيبَتِي، شَيْءٌ وَاحِدٌ؛ يُكْمِلُ كُلٌّ مِنْهُمَا الآخَرَ...

كِلاُهُمَا حَيَاةٌ: نَحْنُ نَعْبُرُ  لِحَيَاةٍ سَرْمَدِيَّةٍ كَامِنَةٍ..

فِي طَيَّاتِ المَوْتِ،

فَبَعدَ وِلاَدَتِي عِشْتُ مَا عَلِمْتِ عَنِّي وَمَا لَمْ تعْلَمِيهِ..

لَكِنَّكِ سَتَعْرِفِينَهُ يَوْمًا، وَسَتَجِدِينَ بِهِ مَا يَجْعَلُكِ تَتَقَدَّمِينَ بِحَيَاتِكِ دُونَ خَوْفٍ أَوْ تَرَدُّدٍ..

فَقَطْ ابْتَسِمِي وَأَنْتِ تَسِيرِينَ، وَسَامِحِي وَأَنْتِ تُدَاسِينَ...

وَثِقِي بِقُدرَةِ اللَّهِ وأّنْتِ تَتَعَثَّرِينَ..

وَأحِبِّي دُونَ أَنْ تَنْتَظِرِي ثَمَنًا لِمَشَاعِرِكِ..

فَقَطْ أَحِبَّي...

بُنَيَّتِي؛

عِنْدَ مَوَتِي لاَ تَقْلَقِي..وَابْكِي حَتَّى يَغْتَسِلَ حُزْنُكِ..

ابْكِينِي بِكِبْرِيَّاءٍ وَشُمُوخٍ كَمَا كُنْتُ أَفْعَلُ..

وَاسْتَعِيدِي لَحَظَاتِ الحُبِّ فِيمَا بَيْنَنَا...

وَلاَ تَهْتَمِّي لِجَسَدِي البَالِي..وَمَا سَيُفْعَلُ بِه؛ِ

فَالمُسْلِمُونَ بالمُسْتَشْفَى هُنَا سَيَقُومُونَ بِاللاَّزِمِ

سَيُجَرِّدُونَنِي مِنْ مَلَابِسِي...

وَيُغَسِّلُونَنِي وَيُكَفِّنُونَنِي وِفْقَ الشَرِيعَةِ وَالدَّينِ...

سَيُعِيدُونَنِي  لبَيْتِي لِلَحَظَاتٍ...

وَقَدْ كُنْتُ كَثِيرَةَ التَّرْحَالِ بِكُمْ مِنْ مَسْكَنٍ لآخَرَ..

أَبْحَثُ لَكُمْ عَنِ الأَمَانِ..

وَهَا أَنَا الآنَ؛ مُحَمَّلَةٌ لِمَسْكَنِي الجَدِيدِ ( حُفْرَةٌ مِنْ تُرَابٍ خَالِيَةٍ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ جَمِيلٍ وَثَمِينٍ اقْتَنَيْتُهُ بِالبُيُوتِ التِي سَكَنْتُهَا )...

سَيَأتِي الكَثِيرُونَ لِتَشْيِيعِ جَنَازَتِي...

وَسَيُلغِي البَعْضُ مِنْهُم الكَثِيرَ مِنْ أَعْمَالِهِ وَمَوَاعِيدِهِ لِيَحْضُرَ مَرَاسِمَ دَفْنِي ...

وَقَدْ كَانَ الكَثِيرُ مِنُهُمْ غيرَ مُبَالينَ بِصَرْخَتِي وَانَا أَتُوقُ  للعَوْدَةِ  يَوْمًا لتَاغِيثَ لأقَبِّلَ تُرابَهَا الذِي لَا تَزَالُ رائِحَةُ جَدِّي الشَّهِيدِ تُعَطِّرُهُ وَقَطَرَاتُ دَمِ أَبِي الذِي اغْتِيلَ تَسْتغِيثُ ...

سَيَحْضرُونَ لِتُذْكَرَ أَسْمَاؤهُمْ فِي آخِرِ الأَخْبَارِ مَعَ اسْمِ ابْنَةِ الأكْرَمِينَ.  !

سَيَحْتَضِنُ تُرَابُ تَاغِيثَ جَسَدِي

تُرَابٌ سَيُوَارِي سَوأةَ الغُولِ الذي أكَلَنِي بِاسْمِ الدَّينِ

ثُمَّ بَعْدَهَا سَيَعُودُونَ.. كُلٌّ إِلَى حَيَاتِهِ.. حَتَّى أَنْتِ

أَشْيَائِي سَيَتمُّ التَّخَلُّصُ مِنْهَا ...

مَفَاتِيحِي...

كُتُبِي التِي عَشِقتُهَا وَعَشِقْتُ إمْضَاءَاتِ الكُتَّابِ عَليْهَا ...

حَقَائِبِي ،أَحْذِيَتِي الغَاِليَةُ...

مَلاَبِسِي الأَنِيقَةُ وَمُجَوْهَرَاتِي الثَّمِينَةُ التِي تحْكِي عَرَاقَةَ الزِّينَةِ الأَمَازِيغِيَّةِ وَهَكَذَا.. وَهَكَذَا...

وَإِنْ كُنْتُمْ  مُوَفَّقِينَ؛ فَسَوْفَ تَتَصَّدَقُونَ بِهَا لَعَلَّهَا تَنْفعُنَي هُنَاكَ...

وَتَأَكَّدِي بُنَيَّتِي بِأَنَّ الدُّنْيَا لَنْ تَحْزَنَ عَلَيّ...

وَلَنْ تَتَوَقَّفَ حَرَكَةُ العَالَمِ ...

وَاﻻِقتِصَادُ سَيَسْتَمِرُّ ...

وَوَظِيفَتِي سَيَأْتِي غَيْرِي لِيَقُومَ بِهَا ...

وَأَمْوَالِي سَتَذْهَبُ حَلَالاً لِلوَرَثَةِ ...

بَيْنَمَا أنَا التِي سَأُحَاسَبُ عَليْهَا !!!

عَلَى القَلِيلِ وَالكَثِيرِ ...النَّقِيرِ وَالقِطْمِيرِ...

وَاعْلَمِي؛

إِنَّ أوَّلَ مَا يَسْقُطُ مِنِّي عِنْدَ المَوْتِ هُوَ اسْمِي !!!

لَنْ يُقَالَ ابْنَةُ فُلانٍ؛ سَيَقُولُونَ  أيْنَ " الجُثَّةُ "..؟

وَلَنْ يُنَادُونِي بِاسْمِي مَرَّةً ثَانِيَةً!

حَتَّى عِنْدَ  الصَّلاَةِ عَلَيَّ سَيَقُولُونَ: أَحْضِرُوا "الجَنَازَةَ" !!!

وَلَنْ يُذْكَرَ اسْمِي ..!

أَنْتِ فَقَطْ مَنْ سَتَقُولِينَ مَامَا...

وَعِنْدَمَا يَشْرَعُونَ بِمَرَاسِمِ الدّفْنِ سَيَقُولُون:َ

"قَرِّبُوا المَيْت"َ وَلَنْ يَذْكُرُوا اسْمِي ..!

لِذَلِكَ يَا ابْنَتِي؛  لاَ يَغُرَّنَّكِ نَسَبِي وَلَا قَبِيلَتِي وَلَا يَغُرُّكِ مَْنصِبِي وَلاَ شُهْرَتِي ...وَلاَ مَكَانَتِي.

فَمَا أتْفَهَ هَذِهِ الدُّنْيَا وَمَا أَعْظَمَ مَا أَنَا مُقْبِلَةٌ عَلَيْهِ ...

يَا ابنَتِي .. اعْلَمِي أَنَّ الحُزْنَ عَلَيَّ سَيَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ:

النَّاسُ الذِينَ يَعْرِفُونَنِي سَطْحِيًّا سَيَقُولُونَ مِسْكِينَةٌ

أَصْدِقَائِي سَيَحْزَنُونَ سَاعَاتٍ أَوْ أَيَّاماً ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى حَدِيثِهِمْ؛ بَلْ وَضَحِكِهِمْ.

الحُزْنُ العَمِيقُ فِي البَيْتِ...

سَيَحْزَنُ أَهْلِي أُسْبُوعًا... أُسْبُوعَيْنِ شَهْرًا... شَهرَيْنِ أوْ حَتَّى سَنَةً؛ وَبَعْدَهَا سَتَضَعُونَنِي فِي أَرْشِيفِ الذِّكْرَيَاتِ!!!

وَهَكَذَا تَنْتَهِي قِصَّتِي بَيْنَ النَّاسِ، وَتَبْدَأُ قِصَّتِي الحَقِيقِيَّةُ.. وَهِيَ الآخِرَةُ.

لَقَدْ زَالَ عَنِّي:

الجَمَالُ ...وَالمَالُ ...وَالصِّحَّةُ ...وَالوَلَدُ ...

وَفَارَقْتُ الدُّورَ... وَالقُصُورَ...وَالزَّوْجَ ...

وَلَمْ يَبـقَى مَعِي إِلاَّ عَمَلِي وَمَا بَيْنَ ظُلُوعِي مِنْ خَبِيَّةٍ..!

وَبدَأَتِ الحَيَاةُ السَّرْمَدِيَّةُ...

وَالسُّؤَالُ هُنَا :

مَاذَا أَعْدَدْتِ لِقَبْرِكِ وَآخِرَتِكِ مِنَ الآن؟؟؟

هَذِهِ حَقِيقَةٌ تَحْتَاجِينَ أَنْ تَتَأَمَّلِيهَا قَبْلَ أَنْ تَبْكِينِي..

وَتَحْزَنِي عَلَيّ؛ لأَنَّ اليَوْمَ لِي وَغَدًا دَوْرُكِ ...

فَاحْرِصِي عَلَى وَصِيَّتِي لَكِ كُلَّ يَوْمٍ :

فَرَائِضُكِ ثُمَّ فَرَائِضُكِ ...

النَّوَافِلَ لَا تَنْسَيهَا ...

صَدَقَةَ السِّرّ يَا ابْنَتِي دَاوِمِيهَا ...

وَعَمَلٌ صَالِحٌ يَلْحَقُنِي بِدَعْوَةٍ تَسُرُّ مَضْجَعِي هُنَاكَ..

لاَ تَبْخَلِي بِهِ لأُمَّكِ ..

وَرَكْعَتَيْ الثُّلُثِ الأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ هِيَ خَيْر زِينَةٍ لِوَجْهِكِ..

وَكُلَّمَا أَدْرَكَكِ مَعَهَا الفَجْرُ تَظَلِّينَ بِسِنِّ العِشْرِينَ..

مَهْمَا تَجَاوَزَتْكِ السِّنُونْ.

وَكِلمَةٌ طَيِّبَةٌ تَنْثُرِينَهَا هُنَا وَهُنَاكَ...

لَعَلَّكِ تَنْجِينَ وَأَنْجُو أنَا لأَنِّي زَرَعْتُ فِيكِ شَيْئّا مِنِّي.

وَاعْلَمِي أَنْ لاَ شَيْءَ يَسْتَحِقُّ مِنْكِ...

أَنْ تُحَمِّلِي قَلْبَكِ الجّمِيلَ غِلاًّ وَحِقْدًا.

فَكُلُّنَا عَابِرُو سَبِيلٍ..

وَسَامِحِي مَهْمَا كَانَ..

سَامِحِي لِيُسَامِحَكِ اللَّهُ وَيَتَجَاوَزَ عَنْ زَلاَّتِكِ

لاَ تَحْزَنِي لأَنَّكِ بَعْدِي يَتِيمَةٌ...

أَنَا قَبْلَكِ كُنْتُ كَذَلِكَ.. وَأَكْرَمَنِي اللَّهُ بِكِ؛ وَسَيُكْرِمُكِ مَا دُمْتِ تُكْرِمِينَ مَنْ حَوْلَكِ.

لاَ تَحْزَنِي بَعْدِي فَاللَّهُ إِذَا أَحَبَّ عَبْدَهُ ابْتَلَاه.ُ

وابْتِلَاؤُكِ فِيَّ عَلامَةُ حُبِّهِ لَكِ..

فَأَحِبِّيهِ بِالصَّبْرِ وَاليقِينِ بقَضَائِهِ وَقَدَرِه.ِ

أَحِبِّيهِ لأنَّهُ الحَبِيبُ الأَزَلِيُّ البَاقِي الأَحَد.ُ

أَحِبِّيهِ بِكُلِّ الأدْيانِ السَّمَاوِيَّةِ.

أَحِبِّيهِ لِأنَّهُ المَحْبُوبُ المَعْبُودُ، الكَرِيمُ فِي العَطَاءِ..

الرَّفِيقُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ

الرَّحِيمُ فِي البَلَاءِ

الصَّدِيقُ سَاعَةَ الرَّجَاءِ

العَفُوُّ القَوِيُّ المَتِينُ الوَدُودُ المُجِيبُ سَاعَّةَ الدُّعَاءِ

أَحِبِّيهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ؛ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكِ يَوْمٌ لَا يَنْفَعُكِ فِيهِ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، وَتَذَكَّرِي فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَع...

وَسَارِعِي إِلَى اللَّهِ قَبْلَ فَوَاتِ الأَوَان...ِ

وَأُوصِيكِ ثُمَّ أُوصِيكِ بِالصَّدَقَة؛ِ

حَتَّى قَوْلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ صَدَقَةٌ..

فَالمَيْتُ يَتَمَنَّى لَوْ يُرْجَعُ للدُّنْيَا لِيَتَصَدَّقَ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى:

رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ.

وَلَمْ يَقُلْ:

لِأَعْتَمِرَ...أَوْ لِأُصَلِّي...أَوْ لِأَصُومَ...

مَا ذَكَرَ المَيْتُ الصَّدَقَةَ إِلاَّ لِعَظِيمِ مَا رَأَى مِنْ أَثَرِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ

فَأَكْثِرِي مِنَ الصَّدَقَة.ِ

فَإِنَّ المُؤْمِنَ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ. 

وَخَيْرُ الصَّدَقَاتِ بُنَيَّتِي مَا كَانَ بَيْنَكِ وَبَيْنَ اللَّهِ؛

لاَ تُظْهِرِيهَا لِيُقَالَ عَنْكِ كَرِيمَةٌ..

وَحَبَّذَا أَنْ تُخْفِيهَا حَتَّى عَمَّنْ تَمْنَحِينَهَا؛ كَيْ لاَ تَتْرُكِي بِقَلْبِهِ شَيْئًا مِنَ الحَسْرَةِ لِضُعْفِهِ وَعَجْزِهِ.

أسْتَوْدَعْتُكِ اللَّهَ الذِي مَا خَذَلَنِي وَمَا تَرَكَنِي لَحْظَةً.!

تعليق عبر الفيس بوك