أنيسة إبراهيم عباس الهوتي
كنت أفكر ماذا أكتب ليوم المرأة العمانية، وقلبت ذاكرتي حول النساء العمانيات اللواتي قرأت عنهنّ ومررن بي واللواتي سمعت عنهن وعن إنجازاتهن حتى استلهم منهن مقالاً يوفي بحقهن، إلا أنني ضعت وتهت ولم أستطع أن أصمم باقة جميلة من بستان الورود ذاك بمختلف أنواعه.
وبينما أنا في متاهة التفكير فجأة رأيت وميضاً لنبذة فريدة من نوعها وتذكرت كيف أنّ هذه النبذة جعلتني قيد التأثر بها لسنوات طويلة حتى دخلت إلى جعبة الذكريات القديمة مع الزمن، إلا أن (التنبيش) الذي حصل حول كتابة المقال جعلها تومض من بعيد وتقترب، فرأيتني أنجذب إليها مرة أخرى بذهول كفراشة تنجذب للوميض وكأنها تراه لأول مرة. ولوهلة اقتنعت دون إعادة تفكير بأنها لا تستحق أن تكون وسط باقة من الورود بل يجب أن تتفرد بنفسها حتى نوفيها حقها لأن ما أنتجته لم يكن سهلاً على الإطلاق.
وهنا أضع هذه النبذة عن (المرأة الحديدية) العُمانية باختصار تام، أتمنى ألا يهضم الاختصار حقها وأتمنى أن تشعروا بما شعرت به حين سمعت عنها فإنّ مثلها لا يتكرر إلا في الروايات الخيالية: هنا نحن نتحدث عن (جمالي) كما كانوا ينادونها إلا أنّ البعض يقول إنّ اسمها الحقيقي كان (فاطمة) والبعض الآخر يقول كان (مريم)، تُوفيت عنها أمها وهي ابنة أسبوع واختفى والدها ولم يرجع من رحلته البحرية التي ذهب فيها للتجارة بعد أن تزوج من والدتها بشهر، كادت أن تموت الرضيعة اليتيمة من الجوع خاصة بعد أن شحت عليها المراضع إلا أن برحمة الله الواسعة كانت في تلك الحارة امرأة تمتلك بعض المواشي تبرعت بحليب ماشيتها للرضيعة كل يوم كأسين أو ثلاث. وتناوب على تربيتها الجيران والأهل حتى أصبحت ابنة الجميع وحين وصل بها العمر إلى الاثني عشر ربيعا، اتفق من تشاركوا في تربيتها أن يزوجوها كعادتهم في الخمسينيات، فزوجوها من ابن أحد الأقارب وأنجبت منه خمسة أبناء على توالٍ في خمس سنين وفي حملها السادس توفي عنها زوجها وأنجبت الإبنة وهي في عدتها.
انتشر وباء السل وتوفي به أغلب الكبار ومجموعة من الصغار وكانت هي كالممرضة في الحارة ترعى هذه وذاك وتهتم بهم وبأدويتهم من خلال ما تعلمته من الحياة، وتهتم بنظافتهم وبإطعامهم مع بقية أخرى من النساء والرجال آنذاك إلا أنّ المجهود الذي بذلته كان واضحاً ومختلفاً عن غيرها، وتوفيت ابنتها الصغيرة وأحد أبنائها بسبب الوباء، وبقي لها من الأبناء أربع.
وكانت قد تعلمت وحفظت بعض الآيات والسور القصيرة من القرآن الكريم، وبقيت تعلمه لأبنائها وكل صغير حولها، وكانت تخدم في بيوت التُجار تطبخ وتغسل وتكنس وتنظف وترعى أبناءهم مقابل (وجبة طعام) لقمة العيش لها ولأبنائها وغيرها ممن كان يحتاج العون. إلى أن كبر الأبناء وكانوا هم الوحيدون في تلك الحارة الذين يعلمون القراءة والكتابة والحساب بنوع من الإتقان ومنذ صغرهم علمتهم أن يعتمدوا على أنفسهم ويعملوا لأجل رزقهم، فعمل إثنان منهما في وصول السُفن منطقة الميناء وكانوا يحملون وينزلون الحمولات واشتغل آخر مع صيادي السمك والأصغر تعلم مهنة الخياطة وبدأ يعمل بها.
توفيت وأبناؤها لم يصلوا بعد إلى عمر العشرين، إلا أنه بتوجيهها وتربيتها أصبح هؤلاء الإخوة الأربعة من أصحاب المال المتميزين بمكانتهم ومشاريعهم الاقتصادية والتجارية، وكانوا ممن ساعدوا الشباب في كسب رزقهم من خلال توفير أعمال لهم في مشاريعهم وأعمالهم التي أسسوها.
وهذا الإنتاج الذي وصل إليه هؤلاء الإخوة الأربعة لم يكن إلا ببركة ورعاية واهتمام تلك الأم (المرأة الحديدية) التي لم تضعف من كونها يتيمة ولم تبتئس من كونها أرملة ولم تيأس من كونها وحيدة بلا أخ ولا أخت، والتي لم يكسرها الفقر والجوع والتعب والإرهاق والمرض والوحدة. والتي لعزة نفسها وكرامتها لم تمد يدها لتتسول قط بل أرهقت نفسها وأطعمت أبناءها من عرق جبينها طعاما حلالا طيبا وجعلتهم رجالاً أشداء أقوياء معتمدين على أنفسهم معاونين لغيرهم. إنّها فعلاً مثال لـ (المرأة العمانية) القوية التي أنجبت وربت رجالات كانوا سبباً للرقي والسمو بالوطن وأبنائه - رحمها الله - واليوم تستحق أن نذكرها حتى تكون مثلاً لغيرها من الأجيال القادمة..
المرأة العمانية امرأة شديدة البأس دون أدنى شك في وجه تحديات الزمن والظروف منذ القدم إلى يومنا هذا، والتاريخ والقصص المروية ممن شهدوا الأحداث أكبر دليل وإثبات لنا على ذلك.
ولأجل كل عطاء وجهد مبذول من (المرأة العُمانية) لأبنائها ومجتمعها ووطنها ولأجل كل صورها وإنجازاتها وإنتاجاتها القديمة والحديثة في كل جيل من أجيالها؛ هي فعلاً تستحق أن تُكَرَم بيوم يختمه التاريخ العُماني والعالمي باسمها (17 أكتوبر يوم المرأة العمانية) بفخر.
فشكراً لها على عطائها اللامتناهي وشكرا لقائد هذا الوطن على تقدير عطائها.