د. راشد بن علي البلوشي
أستاذ اللغويات المشارك
جامعة السلطان قابوس
كفاية الذكاء الاصطناعي تعني أن يكون الحاصل على الدرجة العلمية قادراً على التعلم وبكفاءة عالية بعد الحصول على الدرجة العلمية، من خلال القراءة المواكبة للتطورات في مجال التخصص وكذلك من خلال البحوث التي يجريها (هو وزملاؤه في القسم)، وكذلك (وهذا الأهم) من خلال قدرته على التكيف مع مختلف ظروف ومتطلبات العمل الأكاديمي في مجال التخصص وكذلك استخدام مهاراته العلمية والعقلية والعاطفية والنفسية والاجتماعية والشخصية والتواصلية (والتي طورتها التجربتان العلمية والبحثية) من أجل تحقيق الكفاءة في العمل على الرغم من التطورات المُتسارعة والتغيرات الكثيرة التي يُمكن أن تطرأ على مجال التخصص بشقيه العلمي والعملي، بمعنى أن يكون الخريج مرناً قادراً على تطويع مهاراته لخدمة الأهداف العلمية والبحثية للوظيفة، بما يخدم الوطن على مختلف الأصعدة، وهذا يستدعي بالضرورة أن تشتمل برامج الدراسات العليا على مقررات تستشرف (وكذلك تطور) قدرة الطالب على التطور الذاتي والتعلم من المجموعة وكذلك تغرس فيه القدرة على العمل ضمن فرق علمية تبحث في مواضيع محددة بغية الوصول إلى حلول جديدة لقضايا مُختلفة، وكذلك القدرة على القيادة والتحلي بالصبر والمثابرة وروح المبادرة والرغبة في الخروج عن المألوف في ما يخص الطرق والمناهج البحثية من أجل تحقيق الأهداف الجديدة والغايات المتجددة التي تستحدثها نظم العلم والعمل والابتكار والثورات الصناعية المتعاقبة في العالم. ومما يُساعد في تحقيق ذلك أيضاً أن تتضمن برامج درجة الماجستير مادة أو مادتين من درجة الدكتوراه، وكذلك بأن يُدرِس هذه المواد أساتذة ضيوف من جامعات مرموقة، قادرون على أن يُبحروا بالطلبة في عوالم جديدة من التعلم والبحث والتخيل والإبداع و"التفكير خارج الصندوق" والسباحة عكس التيار (في ما يخص الأفكار والحلول وكذلك المناهج البحثية والأساليب الاستقصائية) واعتقاد الصواب في ما يظنه الآخرون خطأ واعتقاد الخطأ في ما يظنه الآخرون صواباً والنظر إلى القضايا من منظور مختلف والاعتقاد بأنَّ كل شيء (غير كتاب الله وسنة نبيه الكريم الصحيحة) موضوع للبحث والتقصي والرغبة في إحداث فتح علمي أو خرق معرفي يوازي ما يستثمره الوطن في هذه البرامج وطلابها وكذلك ما يطمح له من إنجازات.
الكفاية المجتمعية تتمثل في عنصرين. الأول أن يكون الخريج قادراً على أن يوصل المعارف والعلوم التي اكتسبها خلال مرحلة الدراسات العليا وقبلها وكذلك ما يأتي بعدها من تجارب بحثية للمجتمع في هيئة أخبار وعلوم مفيدة للجميع، تدفعهم للتفكير في قضايا وحلول جديدة وتلهم من يرغب في التعلم والابتكار. والثاني أن تكون خدمة المجتمع (الوطن والأمة) جزءاً مهماً من العقيدة العلمية والمهنية والشخصية لطالب الدراسات العليا، من خلال التصدر لمُعالجة مختلف القضايا التي تهم المجتمع (حتى تلك التي لا تتعلق بمجال تخصصه)، بمعنى أن يكون الطالب الباحث معنياً بكل ما يهم مجتمعه من قضايا ومشكلات، وعلى استعداد لأن يكون ممن يقومون بإيجاد الحلول لها. وتعني كذلك أن تكون رسالة الطالب الباحث هي العمل بكل ما أوتي من قدرات ومواهب وموارد بحيث يكون الجيل الذي يأتي بعده أكثر علماً وأفضل تدريباً وأكثر قدرةً على حمل مشعل التعليم والتطوير والتنوير في المجتمع. وهذا يستدعي بالضرورة الربط الوثيق بين الواجبات البحثية في المواد الدراسية وبين القضايا الوطنية والمشاكل المحلية التي تخص مجال الدراسة، بحيث لا تكون التجربة العلمية والبحثية بمعزل عمَّا يتطلبه الوطن (بمؤسساته المُختلفة) من خبرات واستشارات تهم تطوير موارده الطبيعية وكذلك البشرية، ومثال ذلك ما يقوم به أساتذة وطلاب كلية الهندسة مِمَن ترتبط مشاريعهم وأبحاثهم بمجالي النفط والبتروكيماويات، حيث يقوم هؤلاء بإيجاد حلول للمشكلات التي يواجهها هذان القطاعان، مقدمين بذلك العون اللازم للمؤسسات المحلية بما يغنيها عن طلب الخبرة من خارج البلد.
كل ما تقدم وغيره ضروري إذا كان الغرض من الدراسات العليا هو جودة الدراسة وكذلك الخريجين، حتى يكونوا صالحين للمجال الأكاديمي وكذلك المهني، وخصوصاً مع الأموال الطائلة التي ينفقها الوطن من أجل إنشاء هذه البرامج. أما إذا كان الغرض هو وجود عدد كبير من برامج الدراسات العليا من أجل التفاخر وسرد الإنجازات الإدارية في الخطابات السنوية والتقارير الدورية، أو توفير فرص عمل لبعض الكوادر التي لا يحتاج الوطن لخريجين بدرجة البكالوريوس من أقسامها، فإنَّ الهدف أتفه من أن نجتهد ونسخر طاقات الوطن وموارده من أجل الوصول إليه. والمعيار الحقيقي في جودة برامج الدراسات العليا، وخصوصا برامج الدكتوراه، كما قلنا سابقاً، هو أن تقبل الأقسام العلمية بتعيين النوابغ والمجيدين من خريجيها ضمن الهيئة التدريسية في القسم الأكاديمي. فإذا لم يَحُزْ خريج درجة الدكتوراه على هذا الشرف أو أنَّه لم يكن بالمستوى المطلوب، فإنَّه ربما لأن البرنامج أو القائمين عليه أو الطالب نفسه لم يكن بالمستوى المطلوب، وبذلك فهم ربما لا يستحقون شرف أن يكونوا جزءاً من برنامج درجة دكتوراه في تلك الجامعة.
وتوظيف الخريجين ليس بغريب؛ حيث إن الأقسام الأكاديمية بجامعة السلطان قابوس كانت دائماً تقوم بتعيين بعض خريجيها المتميزين في درجة البكالوريوس بوظيفة معيد (من أجل تعمين الوظائف الأكاديمية)، وذلك لثقة هذه الأقسام وثقة من الإدارة الجامعية في جودة برامج البكالوريوس في الجامعة.. فهل ثقتنا في برامج البكالوريوس أكبر من ثقتنا في برامج الدراسات العليا (وخصوصاً الدكتوراه)؟
وميزة أن يكون خريج درجة الدكتوراه كفئاً وقادراً على أن يلتحق بالقسم الذي تخرج منه كعضوهيئة تدريس (أستاذ جامعي، طبعاً مع توفر الوظيفة لنفس التخصص) هي المحك والفيصل والدليل الدامغ على جودة برنامج الدكتوراه وكفاءة القائمين عليه، وكذلك الطالب المتلقي أولاً والمنتج ثانياً والمبدع المحدِّث ثالثاً. وللتدليل على ذلك، نورد مثالين من أقسام اللغويات في العالم؛ الأول: هو قسم اللغويات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو القسم رقم واحد في العالم (وذلك لوجود البروفيسور نعوم تشومسكي، مخترع علم اللغويات الحديث، فيه)؛ حيث يضم هذا القسم 21 أستاذا جامعياً، منهم 7 ممن درسوا درجة الدكتوراه في القسم. والمثال الثاني: هو قسم اللغويات في جامعة تورنتو (وهو من أفضل 20 قسماً على مستوى العالم)؛ حيث يضم 30 أستاذاً جامعياً (بعضهم يعملون أيضاً في أقسام أخرى)، منهم 7 من خريجي القسم لدرجة الدكتوراه. وهذا طبعاً يعكس ثقة هذه الأقسام في خريجيها، ومن ثَم ثقة العالم في هذه الأقسام وخريجيها الآخرين.
طبعاً، ما تقدم مهم جداً إذا ما أردنا أن نطبق فضيلة الإبداع عند تصميم برامج الدراسات العليا وتنفيذها. أما إذا ما اكتفينا بمطالبة الأساتذة القائمين على تنفيذ البرامج والطلبة الدراسين في هذه البرامج بالإبداع دون أن نقوم به نحن (مختلف الجهات المعنية بتصميم البرامج ومراجعة خططها ومقارنتها ببرامج الجامعات ذات التصنيف الأعلى وإجازتها) عند تصميم البرامج، فسنفوِّت فرصة استغلال الطاقات والمواهب التي يتمتع بها الأساتذة والطلاب معاً، وكذلك فرصة استغلال الموارد التي توفرها الجامعة.