ضَيفة الأوقات العابرة

 

هالة عبادي | سوريا

 

 بعض اللحظات تأبى إلا أن تعود لزيارتنا بعد حدوثها، تعود مجدداً لنتفكر بها، هل كان لها أن تحدث لولا  ضعفنا، عجزنا... لم تكن المرة الأولى التي توافقين بها على لقائه، اللقاء المحرَّم وإن لم يكن فيه غير الكلام.

توجهت إلى المقهى حيث اعتدت لقاءه، كان واقفاً ينتظرك، حال بينكما ازدحام السير، دخلت المقهى بينما ظل هو في الخارج ينتظر، أضجره الانتظار وسرعان ما غادر، اتصلت به كنت قد غادرت أنت أيضاً واتجهت شمالاً أخبرك أنه قد اتجه جنوباً وأقفل الخط، لم يأبه لما كنت تشعرين به من انزعاج لكنك لم تيأسي، حاولت مجدداً حتى أجاب تأخر كثيراً قبل أن يجيبك أنه في طريقه إلى بيته، سرت أنت الأخرى نحو بيتك، كنتما تسيران في شارعين متوازيين، بينكما مبانٍ وشوارع فرعية ضيقة، تمنيت لو أن لك يداً سحريةً تستطيع أن تطاله... تنظرين إلى ساعتك، وتعاودين الاتصال به متأملةً أن يغير رأيه... شعرت أن وصولك إليه يمر عبر متاهةٍ معقدة.

أيقنت ألا جدوى من لقائه في الساحة حيث الناس جميعاً شهوداً على ما سيكون منه تجاهك، كان الاستياء بادٍ في نبرة صوته، حتى لكأنك كنت ترينه جلياً على وجهه، بت تدركين حقيقة ما حدث، لا أحد في المحطة سيفقه شيئاً مما يقول، لكن أنت من كان عليك التفكير بأسرتك، ليس من المعقول أن تضحي بها - هذه وجهة نظر الشخص الطبيعي الذي يعرف طبيعة الوضع بينكما -  شيءٌ ما ألم بصدرك يشبه الألم، بدا الطريق كأنه ازدحم بإشارات التحذير، يمكنني إجراء اتصال أخير - هذا ما فكرت به - جاءك جوابه " أنا الآن أمام البيت ".

كنت كأنك تسمعينها لأول مرة، تراجعت كل آمالك بأن يصبح الحال بينكما أفضل... أمسكت خصلات شعرك رفعتها دفعةً واحدةً إلى الوراء كما كان يفعل من قبل ليرى وجهك... تذكرت حديثه عن العناية التي يتلقاها في بيته، كنت تنصتين إليه بشغفٍ محاولةً ألا تفوتك أية كلمة ناسيةً تماماً ما ترغبين قوله.

مرةً قلت له: " أرجوك اعتن بزوجتك " فامرأةٌ بمثل صفاتها تستحق أن تعتني بها... أجابك: أريد أن أعتني بك أنت ... كنت سعيدةً بجوابه على الرغم من ثقتك باستحالة أن يفعل، كنت له مجرد فاصل راحة بعد يوم عملٍ طويل مثقلٍ بالتعب، ومع هذا لم تمانعي أن تلتقي به، كانت نظراتك له مشبعةً بالعاطفة بالحب، لو لم يكن أخوها هي سبب الفراق بينكما لما كان لقاؤكما أليماً.

يسألك: " أتحبينني"

تجيبين: " لا أعلم، لكني أتمنى ألا تغادرني يوماً وتمتلأ عيناك بالدموع.

أفشى لك يومها بسر: "لا تزال عيناك جميلتين كما عهدتهما قبل عشرين عاماً "وشرح لك الأمر حين كنت كابنة مدينةٍ تنظرين له كشابٍ ريفي عادي جداً، قبل أن يغمر الحب لحظاتكما كلها.

غرقت في أحزانك وهو يذكرك بما حدث بعد رحيلك، لم يكن أمامك إلا أن تغلقي أمامه كل سبيلٍ للحديث عما مضى.

لِم لم يخطر ببالك نوايا أخيها في تزويجهما وهو يخبرك بسيئات من تحبين، لقد استجبت لفكرة فصلكما كطفلةٍ لا تجيد التفكير، حتى فاجأك بتزويج أخته له، لم تفهمي يومها ما يدفعه لذلك كله، لكنك فكرت بالانتقام على طريقتك، سايرته فيما ادعاه من حب نحوك وطلبت منه أن يتقدم لخطبتك ثم تلقى الرد الذي يليق به وبخصاله، واستأنفت طريقك بعيداً عن الحب، تزوجت وأنجبت ثم ها أنت تلتقينه صدفة.

حتى قبيل تلك الصدفة كنت تظنين أنك نسيتيته تماماً، وأنك تحيين اليوم لأجل أمك وأولادك، لكن هذا الاعتقاد تقوض عندما كنت تسيرين خلفه منجذبة لعطرٍ ما كان أنفك رغم السنين لينساه، تبعت خطواته، لكنه تاه منك في آخر لحظة، عدت بيتك سارحةً بعطره وبما كان بينكما من ذكريات.

في اليوم التالي كنت تمضين في الطريق نفسه هو طريقك المعتاد لكنك اليوم تبحثين عنه، كم كانت سعادتك عظيمةً باللقاء لكنها تبعثرت ولم يبق لك الآن إلا الخيبة وقد علمت أنك ضيفة الأوقات العابرة، وأنك غريبة عن بيته وانتابك اليأس أمام هذه الكلمة الصغيرة "بيته".

تعليق عبر الفيس بوك