د. عبدالله باحجاج
سيجد قريبا قرابة 15 صحفيا عمانيا، أنفسهم ضمن قائمة الباحثين عن عمل، سنجدهم يتنقلون من صحيفة إلكترونية إلى أخرى ورقية وشركات.. بحثا عن وظائف، وقد يكون خيارهم خارجيا كذلك، فبعضهم يملك خبرات مهنية وتجربة عميقة في مهنة المتاعب، وكلهم الآن في حالة رعب مرتفعة من فقدانهم وظائفهم، والقلق المرتفع نفسه من أوضاعهم الراهنة، حيث تتأخر مرتباتهم لنحو سبعة أشهر، وفي حالات توزع ناقصة.. فهم في كلتا الحالتين يعيشون في قلق، وهم من كانوا بالأمس يمثلون صوت السلطة الرابعة، من ينتقد الخطأ ومن يدافع عن المصلحة العامة ومن يقول "لا" وطني خط أحمر، فكيف سيصبحون صحفيين بلا عمل؟
لن نستعطف القلوب بالحديث عن التزاماتهم المالية البنكية لسنوات عديدة، ولن نفتح ملف انعكاسات ذلك على كياناتهم الأسرية، ومن منا ليس عليه مثل هذه الأحمال الثقيلة على الراتب، بل إن هذا الأخير لن يقاوم الضغوطات عليه حتى المنتصف الثاني من كل شهر، ومن منّا سيتحمل تأخر مرتبه بضعة أيام وليس عدة أشهر، وإنّما سنركز هنا على حالة الفراغ المؤسساتي والتشريعي الذي بسببهما قد يجد الصحفي نفسه مع ابنه في قائمة الباحثين عن عمل، وكذلك تقديم رؤيتنا للحل المؤقت والدائم لقضيتهم قبل أن تضيف احتقانا آخر على احتقانات التراكمية.
هذه القضيّة لا تخص مؤسسة صحفية واحدة بل عدة مؤسسات، كمؤشر ينم عن تصعيد خطير في الأزمة التي تعاني منها صحافتنا العمانية التي تلجأ الآن إلى مساومة صحفييها بالرحيل مقابل إغراءات مالية متواضعة والبقاء المؤقت في الوظيفة مقابل مرتبات محدودة وغير مضمونة، ففي كل الحالات، سواء ظلوا في وظائفهم أم رحلوا مضطرين بالتعويضات البسيطة أو تم تسريحهم قسرا، فهم يعانون كذلك من وضعهم القائم، فالعديد من المؤسسات الصحفية تعاني من أزمة التمويل، لعدة أسباب، لا مجال لذكرها في هذا المقال.
لأنّه يهمنا هنا معاناة صناع السلطة الرابعة، تعاطفا معهم، وإيمانا بقضيّتهم التي لا ينبغي أن تتفرج عليها مؤسسات الدولة المعنية بقطاع الإعلام والصحافة، لو تركوا يعانون وحيدين، علينا التساؤل عن أي مستقبل ينتظر الصحفيين؟ وهل سيتم الدفع بهم للهجرة، فقد يشكل بعض الصحفيين الذين يمتلكون الخبرات المهنية والوعي السياسي، حالات جذب واستقطاب لمؤسسات صحفية وإعلامية إقليمية لدواعٍ كثيرة، أبرزها كونهم عمانيين وأصحاب خبرات مهنية ومعلومات سياسية.
والمحيط الجيوسياسي يترصد ويترقب أية حالة مهاجرة أو مهجرة قد يوظفها لأجندته الخاصة، وكذلك لتصحيح حالة الاختلال في وسائل إعلام وصحفية خليجية، يطغى عليها مهنيون ينتمون لجغرافيات ذات حساسيات سياسية، مما قد يبدو معها الصحفي العماني المتمرس والجاهز مهنيا وإداريا، كأنّه نزل عليها من السماء.
وقد زرنا مؤخرا مؤسسة إعلامية حكومية خليجية، وكوننا من أعضاء الهيئة الاستشارية لإحدى المجلات الخليجية الشهيرة، يرتفع إحساسنا بمدى تقاطع المُسرحين من صحافيينا مع الحاجة الماسة للصحف والمجالات الخليجية الخاصة والحكومية، للدواعي سالفة الذكر.
فلقمة العيش قد ترمي باصحابها إلى اتخاذ قرارات مضطرة، وغير مخطط لها، حتى لو كان العيش في المهجر - أي الخارج – كل الاحتمالات قائمة إذا كانت القضية وراءها لقمة العيش، وهذه مسألة يمكن تصويرها ذهنيا، وسنتركها لهذا التصوّر الذاتي من منطلق إسقاط الفرد نفسه في قضية الصحفيين.
وهذه القضية تكشف أهمية إعادة تنظيم قطاع الصحافة في بلادنا، ويهمنا هنا الجوانب التي تهم قضية الصحفيين، وهى غياب المؤسسات المستقلة والحكومية على السواء في الدفاع والمحافظة على حقوقهم في مثل هذه الأزمات، مما يحتم إقامة نقابة للصحفيين تدافع وتؤمن لهم حقوقهم في كل الظروف والأنواء التي يمرون بها وكذلك إنشاء صندوق للتأمين ضد العجز وضد فقدان وظائفهم كالحالة التي يتعرضون لها الآن، ومثل هذه الضمانات من دواعي الممارسة المهنية الملتزمة، وديمومة الاستقرار النفسي لمن يعمل في مهنة المتاعب، وهي للأسف لا تتوفر للصحفيين العمانيين الآن.
ولا يمكن الرهان على جمعية الصحفيين العمانية التي لم نسمع لها لا صوتا ولا حسا في هذه القضية حتى الآن، رغم أنه يفترض أن تكون "بيت كل الصحفيين" إما بحكم العضوية أو الانتماء للمهنة، ربما أنّها منشغلة منذ فترة بأنشطتها الخارجية، وبسفر كوادرها في عواصم غربية وشرقية، رغم أنّ هذه من القضايا العاجلة التي ينبغي أن تتصدر اهتماماتها، وتمد مظلتها على كل منتمٍ لقطاع الصحافة والإعلام في ظل غياب النقابة وصناديق التأمين، فهى قد تفرّجت على إنهاء خدمات ما يقارب 40 من صحيفة واحدة، و30 من أخرى منهم صحفيين ومديرو تحرير.
ربما علينا هنا التوجّه مباشرة إلى وزارة الإعلام التي ينبغي أن تضمن بقاء هؤلاء الصحفيين في أعمالهم عبر السعي إلى تقديم دعم مالي للصحافة مشروط ببقاء الصحفيين أو ضمهم إلى إلى القطاعات الإعلامية الحكومية؛ إذ لا يمكن أن تظل متفرجة على أزمة الصحفيين وهي الجهة التي أنيط بها تنظيم ودعم قطاع الإعلام والصحافة، وهي تعلم دور الصحفيين في مختلف مراحل النهضة العمانية، والدور المستقبلي المرجو منهم، فهل إنهاء خدمات الصحفيين العمانيين، سيجعلهم متشبثين بالمهنية الوطنية المسؤولة أم بهاجس الوظيفة الآمنة والدائمة؟
لا يمكن قبول موقف المتفرج من أزمة الصحفيين الراهنة، فإذا لم تبادر مثل هذه المؤسسات بالتدخل فستتعاظم ظاهرة صحفيين بلا عمل، وستلقي بظلالها على شأننا الداخلي، ليس في جوانبها الإنسانية وإنما كذلك في هجرة خبراتنا إلى الخارج في ظل سيكولوجيات الشعور بالتجاهل والتهميش.. فلا ينبغي أن نرمي أبناءنا في أتون تجاذبات الخارج الذي عيونه على شأننا الداخلي لأجندات سياسية، وبالتالي فإنّ الكثير منهم سيكون استقطابهم سهلا وهم يشعرون بسيكولوجية الظلم والتهميش واللامبالاة بقضيتهم، كما أنّ الإسراع إلى إعادة تنظيم قطاع الصحافة في بلادنا يعد من الحتميات العاجلة خاصة الآن بعد التحسّن في مالية الدولة.