سؤال التنافسية!

حاتم الطائي

 

بدائل تمويل عجز الموازنة تسببت في زيادة تحديات التقدم بمؤشر التنافسية

تعزيز التنافسية مسيرة ممتدة وتتطلب تكاتف الجهود والنظر بتفاؤل للمستقبل

 

كشفت مؤشرات التنافسية لعام 2019 تراجع الترتيب العام للسلطنة بنحو 6 مراكز عن العام الماضي 2018؛ الأمر الذي نتجت عنه مناقشات مجتمعيّة واسعة، لاسيّما في أوساط المتخصصين والمسؤولين، وهنا نكون أمام سؤال التنافسية المحوري: ما أسباب هذا التراجع وكيف يمكن معالجته؟

الإجابة تتطلب بالضرورة تسليط الضوء على أبعاد لم يذكرها التقرير الذي يصدر سنويا عن المنتدى الاقتصادي العالمي؛ البعد الأول هو أوضاع الاقتصاد العالمي وتحديات التنافسية في ظل التوترات التجارية والمتغيرات الجيوسياسية، وهذا بُعد بالغ الأهمية، فأن تعيش وسط منطقة تموج بالصراعات والتدخلات العسكرية إضافة إلى بوادر ركود عالمي، والأهم من ذلك كله تقلبات في أسعار النفط، فأنت أمام تحدٍ كبير، ليس فقط على مستوى التنافسية مع الدول الأخرى، بل أيضًا من حيث إدارة شؤونك الاقتصادية الداخلية. فالحكومة تسعى بكل جهدها لتلبية احتياجات المواطن من الخدمات والتنمية، رغم ما تعانيه من نقص في الموارد مع تراجع أسعار النفط لمستويات تاريخية، الأمر الذي دفع إلى اللجوء إلى بدائل تمويل ذات كلفة حقيقية على الاقتصاد، وهذه الكلفة أسفرت عن ارتفاع معدلات الدين العام. فالعجز المالي في ميزانية 2019 قد يصل إلى 2.8 مليار ريال بنهاية السنة المالية، وهو ما يمثل 9% من الناتج المحلي، في ظل عزم الحكومة على إنفاق قرابة 12.9 مليار ريال على التنمية، بينما الإيرادات ستكون في حدود العشرة مليارات و100 مليون ريال، ولذلك وضعت الحكومة خطة لتمويل هذا العجز المتوقع، وأغلب مصادر هذا التمويل عبر الاقتراض سواء الخارجي أو المحلي، ونسبة قليل سيتم تمويلها من خلال السحب من الاحتياطيات.

وعلى الرغم من أنّ البعض راهن على ارتفاع أسعار النفط، خاصة في أعقاب التوترات التي شهدتها منطقتنا خلال الشهور الأخيرة، وأدت إلى زيادة نسبية في الأسعار، إلا أنّ الواقع تمثّل في عدم استمرار هذا الارتفاع، لأنّه ببساطة غير مبني على نمو حقيقي للطلب على الخام، بل نابع من مخاوف لدى المستثمرين سرعان ما تلاشت بعد انقشاع سحب التشاؤم إزاء مأمونية حركة الملاحة في الممرات الدولية. ولذا كان- ولا يزال- الخيار الأول للسلطنة أن تعمل بكل جد وسرعة على تحقيق التنويع الاقتصادي، والاستفادة من المقومات التي تزخر بها بلادنا.

والمؤشرات الداعمة لنمو القطاعات غير النفطية الواعد، مبشرة للغاية، فنحن على الرغم من التراجع في الترتيب العام بتقرير التنافسية العالمي، إلا أننا حافظنا على أداء جيّد في مؤشرات بعينها، منها- وفي المقام الأول- احتلال السلطنة للمركز الأول عالميا في مؤشر "الخلو من وقوع الإرهاب"، وهذا- برأيي- المؤشر الأكثر أهمية على الإطلاق، فصفر إرهاب يعني أعلى معدلات الأمن والأمان، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فنحن في عمان نعيش في أمان وسط منطقة ملتهبة، وذلك بفضل السياسات الحكيمة وعمق الرؤية الاستراتيجية في ظل القيادة الفذة لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه، ونحن إذا ما وظفنا فقط هذا المؤشر لجذب الاستثمارات واستقطاب المستثمرين من حول العالم، نكون قد حققنا تقدما كبيرا على صعيد تطوير القطاعات الواعدة. وما علينا سوى ترجمة النجاح السياسي- محليا وخارجيا- إلى نجاح اقتصادي يساعدنا على تخطي التحديات الاقتصادية.

مؤشر آخر يجب النظر إليه عند تقييم ترتيب السلطنة في مؤشرات التنافسية، وهو "مؤشر تكلفة الجريمة المنظمة على الأعمال التجارية"، والذي حلّت فيه السلطنة بالمرتبة الثانية عربيا والسادسة على مستوى العالم، وهي بلا شك مراكز متقدمة للغاية، تتماشى وتتوازى منطقيا مع درجة الأمان الذي تتمتع به الأعمال التجارية جراء احتمال وقوع جرائم تؤثر على هذه الأعمال. وهذا دليل آخر على جاذبية المناخ الاستثماري في السلطنة، وترجمة للتوجيهات السامية بمواصلة جهود تعزيز جاذبية مناخ الاستثمار، ومستوى التسهيلات المقدمة للمستثمرين، سواء في المناطق الاقتصادية الخاصة أو الحرة، وحتى في المدن الرئيسية.

مؤشرات أخرى تدلل على ما حققته السلطنة من أداء متقدم في مؤشرات التنافسية، فقد قفزت 29 مركزا في محور الابتكار لتتبوأ المرتبة السابعة والخمسين على مستوى العالم، وهذه قفزة نوعية يجب التوقف عندها لأنّها تبرهن الجهود المبذولة لدعم الابتكار والموهوبين، وتعكس مستوى اهتمام الدولة ومؤسساتها بالبحث العلمي والتطوير، وهي جوانب على قدر كبير من الأهميّة في صناعة التقدم الاقتصادي. فالابتكار في ظل التطورات المتلاحقة للثورة الصناعية الرابعة- القائمة في أساسها على مبدأ الابتكار- يدعم بصورة كبيرة تحقيق النمو الاقتصادي ويعزز من تنافسية السلطنة. ولم تكن السلطنة لتصل إلى هذا المستوى المتقدم دون جهود ملموسة من مؤسسات عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، الصندوق العماني للتكنولوجيا، ومصنع الابتكار بواحة المعرفة مسقط، والكليات التقنية التي ترفد سوق العمل سنويا بالعديد من المخرجات الواعدة، وأضيف على ذلك جائزة الرؤية لمبادرات الشباب التي وللسنة السابعة على التوالي تعمل على اكتشاف المبتكرين وتنظم لهم الفعاليات التي تساعدهم على التعمق في مجالات الابتكار، وخاصة تلك المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والروبوت.

أمّا البعد الثاني، فيتمثل في جهود المكتب الوطني للتنافسية، وهو الجهة الحكومية المنوط بها تعزيز تنافسية السلطنة في مختلف المؤشرات، والنتائج التي تحققت في عام 2019 تعكس حجم الجهد المبذول للقائمين على هذا المكتب، وأكرر أنّه لا يجب أن نطلق الأوصاف السلبية ونلقي بنظرة غير إيجابية على الترتيب العام، لأنّه كما ذكرت يتضمّن تحديات عدة؛ كثير منها تحديات خارجية لا نستطيع التحكم فيها بمفردنا. لكن من منظور تفاؤلي- وهو مطلوب لمواصل الأداء وعدم فقدان الحماس- يمكن القول إنّ جهود المكتب الوطني للتنافسية تجلت في ما حققته السلطنة من تقدم في المؤشرات المذكورة آنفا، فبعد تقرير العام الماضي، من الواضح أنّ المكتب كثف الجهود مع مختلف الجهات المعنية للنظر في نقاط الضعف بهدف تقليصها وزيادة نقاط القوة. ومثل هذه الجهود لا يمكن الحكم عليها في غضون عام أو عامين، بل هي مسيرة متواصلة وجهد طويل الأمد، يستدعي التحلي بالصبر واستمرار التقدم.

وهذا ينقلني للحديث عن البعد الثالث الذي أود الإشارة إليه، وهو تطلعات الرؤية المستقبلية "عمان 2040"، وهي الرؤية الطموحة التي تعتزم بلادنا البدء فيها مع نهاية العام المقبل، وتأمل من خلالها الحكومة الرشيدة أن تحقق مؤشرات متقدمة في العديد من القطاعات الاقتصادية، رافعة شعار "عمان في مصاف الدول المتقدمة"، من خلال نظام تعليمي مستدام ومنظومة صحية رائدة توفر خدماتها للمواطنين وفق معايير عالمية، على بناء اقتصاد معرفي قائم على أسس التنافسية وذلك من خلال تنويع مصادر الدخل وتقليص الاعتماد على الموارد النفطية، وغيرها من التطلعات والطموحات المشروعة، والتي نستطيع بلوغها وتحقيقها إذا ما تكاتفت الجهود.

ويبقى القول.. إنّ قراءة مؤشرات التنافسية لا ينبغي أن تقتصر على نظرة محدودة ضيقة، بل يجب أن تتعداها لتكون شاملة لمختلف النواحي، مع التطلع بعين يملأوها التفاؤل إلى المستقبل المزدهر لعماننا، وفق آليات مدروسة بعناية ودقة، وجهد مؤسساتي وتضافر للجهود، من أجل رخاء ونماء هذا الوطن الغالي.

الأكثر قراءة