د. صالح الفهدي
يقول عالم الكيمياء البلجيكي إيليا بريجوجين: "لا نستطيع التنبؤ بالمُستقبل لكننا نستطيع أن نصنعه"، وصناعةُ المستقبلِ تبدأ من صناعة الإنسانِ المفكِّر، المبدعِ، صاحبِ الخيالِ الواسعِ، وهذا ما فعلته الأُمم التي تقعُ اليومَ في صدارةِ الأُمم المتقدِّمةِ علمياً، واقتصادياً.
سُئل أحد الأشخاص من أصحابِ الإنجازاتِ سؤالاً: هل توقعت في صِباكَ أن تجدَ نفسكَ في المكان المرموق الذي أصبحتَ عليه اليوم؟ فأجاب: لم يكن في مُخيَّلتي مكانٌ ما، إنَّما كنتُ أصنعُ لنفسي مستقبلاً واعداً، بما كنتُ أملكهُ من طموحٍ، وأبذلهُ من جهد، وهكذا يكون الأمرُ بالنسبةِ للمجتمعات والدول؛ لا تستطيع أن تتنبأ كيف يكون مستقبلها، خاصَّةً في عالمٍ مضطربٍ بالأحداث، موَّارٍ بالمتغيرات.
في عام 1860 دُعيت مجموعة من الخبراء للتنبؤ بمستقبل مدينة نيويورك بعد 100 عام، ثم خرجوا مُجمعين على نتيجة واحدة وهي: أن مدينة نيويورك ستختفي من الوجود بعد مائة عام أي بحلول عام 1960..! وسبب ذلك هو ارتفاع عدد سكان نيويورك وحاجتهم إلى ستة ملايين حصان لكي يتمكنوا من التنقل، وعندها سيكون التعامل مع روث هذا العدد الهائل من الأحصنة مُستحيلاً لأنَّ السكان سيكونون غارقين في روث عمقه 4 أقدام..!! أغفل هؤلاء الخبراء الرُّوح الإبداعية للبشر، إذ وصل عدد المصانع في عام 1900 إلى ألف مصنع للسيارات أي فقط بعد 40 عاماً من اجتماعهم العظيم هذا.. وها هي اليوم مدينة نيويورك مزدهرة لا يُعيقها روث الستة ملايين حصان!!.
وإذا كان ذلك التنبؤ الخاطئ تماماً قد حدث في نهاية القرن العشرين فكيف هو الحال اليوم، في ظل عدم الاستقرار السياسي في مناطق عديدة في العالم، والحروب التجارية بين عمالقةِ الاقتصاد، والتجاذبات الجيوسياسية المختلفة بين القوى العظمى المؤثرة في العالم؟!.
لقد أصبحت إدارات الدول بحاجة إلى عقول متحررة من مفاهيم الاستبداد السلطوي، والقمع الفكري؛ عقول قادرة على الاستفادة من العقول البشرية لإكساب دولها هيمنةً، وقوةً تجعلها في مصافِ الدول المتنافسة. الأمر الذي يعني أن الإدارات التقليدية للدول بما تشتمله من مفاهيم تقليدية، بالية، تعملُ على ترديد أفكار قديمة لا يُمكن لها أن تجد مكاناً في عالمٍ لا يفسحُ مجالاً إلا للمبدعين من الأفراد، والدول التي تمتلك القدرة على إنتاج المعرفة.
هذا يعني أن على هذه الدول أن تعيد التفكير في منظومتها الثقافية عامَّةً، وتغربلها بأدقِّ ما تستطيع، لتخفَّفَ من حمولةٍ أثقلتها، ثم تحدِّد أهدافها، ومساراتها، ثم تحدد ما يتوجِّبُ عليها فعله، وتُنيط ذلك على مؤسسات عصريةٍ، تُراقبُ الأداء، واتجاهات المسار، وتقيِّم الأداء، وتصحح، الأخطاء، وتعدِّل المخرجات.
إنَّ صناعة المستقبل لا تعني أن نضع الرؤى المستقبلية البعيدة، وإنَّما تعنى أن نصنعَ العقول القادرة على إدارة شؤون الدول، وإلاَّ فإننا سنجدُ أنفسنا في متاهاتٍ لا نعلمُ كيفَ نخرجُ منها، لأننا أغفلنا صناعة العقل القادر وحده على صناعة المستقبل؛ ذلك الذي يموجُ بالتحديات في مستهلِّ الثورة الصناعية الرابعة، التي بدأت ملامحها في الظهور –كأيَّةِ ثورة سبقتها- بصورة لا تكادُ تبينُ وإنَّما تأخذُ مساراً تصاعدياً، لكننا موعودون في هذه الثورة الرابعة بوتيرةٍ لم يشهد التاريخ الإنساني مثل سرعتها العالية جداً..! فإذا كانت وظائف الذكاء الاصطناعي لا تتعدى 0.04 اليوم، فإنَّ قدرات هذه الثورة تُنذرُ بتسارعٍ مضطردٍ جداً في مبتكراتها، وهو ما سيُصيبُ العالم –خاصة الدول التي لم تتهيأ لها- بالدُّوار الذي لن تجدَ له علاجاً، سوى العقاقير التي تَرِدُها من مبتكرات الذكاء الاصطناعي..!
لقد قامت بعض الدول بإنشاء مراكز للثورة الصناعية الرابعة (ثورة الذكاء الاصطناعي)، وخلقت منصبَ "وزير المستقبل" من أجلِ الاستفادة من الفرص، والتعامل مع التحديات التي يحبلُ بها المستقبل، وفهم أعمق لما يحدث في العالم من حراك، وينشأ من اتجاهات، وتلك من وجهةِ نظري رؤى متقدمة على صعيد الرؤى الحكومية، التي تسعى إلى صناعة المستقبل، لا أن تكتفي برؤية الآخرين وهم منهمكون في صناعة المستقبل، بينما تقوم هي بواجبها التاريخي في استهلاكِ منتجاتهم..!
إننا إزاءِ مرحلةٍ تاريخية مفصلية في تاريخ الإنسان، كُتبَ لنا أن نشهدَ بداياتها الأُولى، تلك هي الثورة الرابعة التي وصف كلاوس شواب، مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي "دافوس" ميزتها الأبرز بأنها:"اندماج مختلف التقنيات، وشبكة الإنترنت الخلوية، والتقنيات السحابية، والبيانات الكبرى والطاقة الجديدة، والروبوتات التكنولوجيا الذكية، إلى جانب إزالة الحدود بين العالم المادي والعالم الرقمي والعالم الحيوي باستمرار".
إنَّه عالمٌ لا مكانَ فيه للمتراخين، الذين يسوِّفون، عالم لا ينتظر المترددين الذين لم يحدِّدوا لأنفسهم أهدافاً أو اتجاهاً في صناعة المستقبل..!