أمي.. نداؤها الأخير كان "اسمي"

 

هالة عبادي| سوريا

 

يجتمعون يتبادلون الأفكار فيما بينهم وتقررين أنت الهروب مع ذكرياتك على السرير الذي طالما احتضن أمك في الآونة الأخيرة.

تجوبين خبايا الفكر، تناشدين الذكريات، تسألين من وما فيها أن يعيدك إلى حضن أمك، حنان صوتها، تمد يدها تتمسكين بها بقوة وكأنك لا تعلمين أنه مجرد حلم.

تدخل أختك، ينتابك الخجل وكأنك ضبطت بجرم، لا تبدو كلماتك ولا حتى حمرة خديك نافعةً في الاعتذار .

كنت مع أمك؟ تسألك تبتسمين ثم تبكين ...

نعم كنت معها أحتاجها جداً لست واثقةً من قدرتي على الاستمرار بدونها

"لست قاسية!! "

اتسعت عيناك وأنت تسألين إياي تعنين؟

كانت المرة الأولى التي تسمعين فيها من يصفك بالقسوة.

لست أنا من قالها، إنها أمك .

متسائلةً بينك وبين نفسك إن كان هذا رأي أمك الحقيقي فيك؟!!

منذ سنوات صار اعتماد أمك عليك كلياً في أمور كثيرة، يبدو أنك كنت قاسية عليها دون أن تعلمي، كيف وأنت تقولين: إنه لا يتقن التعامل مع كبار السن إلا من أنجب وعامل الأطفال ورعاهم، لأن كبير المُسنّ يعود طفلاً ويحتاج كل ما يحتاجه الطفل من عناية وحنان.

كم فرحت بكلمات أمي عني، حدثت الجميع عنها، عن تعليقاتها على كل ما أقوم به،،،

كانت شديدة الإعجاب بمعاملتي الرقيقة واللطيفة مع أولادي  بمسايرتي لهم وتلبيتي لكل طلباتهم بمحبةٍ ودون أدنى تذمر، تحفظ الكثير من محادثاتي معهم وكنت أشعر بالفخر في حديثها عن كل ذلك.

من أين أتيت بالقسوة؟ ومتى تحديداً كنت كذلك معها؟ بأي تصرفٍ دفعتها لنعتي بهذه الصفة؟

أمي التي كانت كثيراً وكثيراً جداً تحبني؛ ولأجلي أحبت زوجي ومن ثم أولادي تقول عني قاسية؛ آثرت أن تبقى هذه الكلمة مخبأة دون أن تتوقف دموعي.

هل يمكنها الآن أن تصفح عني، لست واثقةً من أنها قالت هذا، أذكر تماماً حين كانت تناشدني أن أطلب لها الرحمة كيف كنت أردد على مسامعها "رب اغفر لي ولأمي" خشية أن يجرحها أن أطلب المغفرة لها وحدها.

دعائي هذا أثار انتباه الجميع، لم يكن سهلاً أبداً أن أدعو لها كما كانت تطلب "اللهم ارحم أمي"  فقد كانت تضج بالحياة رغم مرضها، كيف تسألني أن أطلب لها الموت.

كان هذا أصعب من أن أطلبه أو حتى أتلفظه، وعلى الرغم من ذلك فقد ماتت؛ وكل ما أستطيع قوله: إننا جميعاً قصرنا بحقها، ولهذا يجب أن نطلب منها الصفح، أن نرجو عفوها، حسمت أختي الكبرى النقاش على طريقتها: (لقد فعل كلٌ منا أكثر ما يمكنه فعله، في النهاية كلنا سنموت يوماً، وسنلحق جميعاً بأمي).

ابتعدت عن الجميع، وتركت لهم الاهتمام بكل شيء كما أفعل دوماً، سأطلب غفران التقصير وحدي، أعتقد أن هذا سيرضي روحها، لا أجد من يلقي اللوم عليَّ مؤخراً، يفاجئني سلوكهم ثم أكتشف أني"وصية أمي".

أمي الحنونة تتجاهلين قسوتي وتقصيري، وتصرين أن تبقى رحمتك محيطةً بي .

تحاصرني ذكرياتي معك والندم، كنت تشقين أمامنا كل طريقٍ جديد، كيف أمضي الآن بدونك، ومن سيحرس لي الطريق.

كنت أحتفل مع صديقاتٍ لي بمناسبة لا يهم أن أذكرها الآن ضحكنا كثيراً يومها وسرقنا الوقت تأخرت، كنت بمدخل البيت واقفةً تنتظرين عودتي، نظرتك حينها كانت كافية لإدراك ما سببته لك.

أنا الآن أم تتأخر ابنتي في مشوار مع صديقاتها فأتذكر أمي.

أمشي معها في السوق، تختار رفقة والدها تماماً كما كنت أفعل مع أمي، لحظات لا يفكر بها المرء إلا حين يمر بها من جديد، لم يسبق أن جربت الحياة بدون أمي، كل ما كنت أفعله هو التحديق نحوها إذا ما طرأ علي أمر جديد، أستجدي بنظراتي مشورتها، كيف سأتصرف وأمي لم تعد هنا.

لم يكن علي أن أنصرف عنها، لكن برنامجي كان مكتظاً، وكانت أيامي دوماً حافلة.

كيف للمرء أن يغفل عمن يحب، عن جزئيات بسيطة قد تسعده، كانت الإشارات على دنو أجلها تملأ المكان،  وحدي أنا لم أفهم شيئاً مما يدور، أو لم أكن أريد أن أفهم، فتحت عيني دهشةً حين سمعتها تنادي،،، الأسرة كلها تعلم أن أمي تحتضر، ولعل سر انزعاجهم أن نداءها الأخير كان "اسمي".

تعليق عبر الفيس بوك